بيروت مستباحة للشعارات وصور الرؤساء العرب منتشرة في بلد بلا رئيسأحمد محسنتصعب كتابة مضامين الشعارات المذهبية التي باتت تحتلّ جدران بيروت وضواحيها، لما تحويه من تحريض على الفتنة، لكن لا يمكن أيّ مواطن أن يتجاهل وجودها. هي شعارات تعلن «انتماء» المنطقة وترسم حدودها حين يكون «الفرز» ممكناً، فيما لا يمكن توقع عواقب الأمور في حال فعلت الأفعى المذهبية فعلتها
بعد إطلاق اعتصام المعارضة اللبنانية في ساحتي الشهداء ورياض الصلح نهاية عام 2006، انطلقت حملة «أنا أحب الحياة» من جهات اتضحت هويتها السياسية يوم ولادتها، لأنها ترافقت مع تصريحات لقادة السلطة الحالية تتهم فيها المعارضة اللبنانية و«حزب الله» على وجه التحديد بالترويج لما سمّي «ثقافة الموت». كرّست السلطة احتضانها للحياة عبر مؤتمر نظمه منتدى الفكر التقدمي، بحضور ممثّلي أحزاب السلطة ورموزها. لم يتأخر ردّ المعارضة على السلطة المستميتة من أجل الحياة، فقد أعلنت المعارضة اللبنانية شروطها للعيش الكريم، امتلأت الشوارع والأوتوسترادات بنوعين من الحياة، علقت على اللافتات في كل مكان من الطرقات. فريق يحب الحياة بلا شروحات، وفريق أضاف إليها بعض المصطلحات كالكرامة والألوان كاملة.
حافظت الحملتان على الحدّ الأدنى من أدبيات التخاطب الإعلامي، قبل أن يستيقظ اللبنانيون على أشكال أخرى من الحروب الإعلامية، يطغى عليها الطابعان الطائفي والمناطقي.
احذروا غضب «المذاهب»يرفض أهل المنطقة التعليق على الموضوع، لكن علاء (21 عاماً) يؤكد عدم انزعاج أي أحد منها، لأن هذه المنطقة «مع الحريري والشيخ سعد» كما يقول. أما بالنسبة لكتائب الشهداء فيستغرب السؤال ويقول بصوت واثق «إذا حاول أحد الاقتراب من مناطقنا فبإمكاننا الاستشهاد نحن أيضاً».
في شارع الجزار المتفرّع من طريق الجديدة، علّقت على أحد الجدران لوحة «فنية» تثبت ما قاله علاء... بالصورة وبالألوان هذه المرة، وقد كتب عليها «نحن أبناء أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ومن يجرؤ فليتحدانا».
الأفعى المذهبية هي الأخرى تمدّ رأسها من الصورة، لتنهش المناطق المحيطة بالجامعة العربية والمدينة الرياضية، في ظلّ غياب تام للبلديات والمراجع المختصة، فأمست «الحيطان» ساحةً لإطلاق المواقف، من دون أي إمكان لاكتشاف مطلقيها الحقيقيين. حتى اللافتات المؤيدة للنائب سعد الدين الحريري تحمل تواقيعَ «مشفّرة» كـ«أهل المنطقة» و«عائلات بيروتية»... ووجيه الدامرجي رجل اليافطات الشهير في بيروت، كما يصفه أبو هاني (40 عاماً)، وهو صاحب متجر في شارع الحمرا منذ زمن. صور المفتي قباني موجودة بين كل عشرة أمتار في طريق الجديدة، وهذا للتأكيد «أن المنطقة سنيّة بالمطلق» كما يقول محمد العرب، أحد الناشطين في تيار المستقبل.
في الشيّاح المشهد مماثل، حيث الشعار الطائفي عبارة عن سيف كبير ذي حدين، كتب تحته باللون الأحمر «شيعة شيعة شيعة». لكن في الشياح، حصل ما هو أكثر أهمية بالنسبة لشباب المنطقة بسبب أحداث مار مخايل الأخيرة. كمال (27 عاماً) يرفض الحديث عن الجيش، ويؤكد أنه نزع بنفسه صوراً كثيرة لقائده عن أطراف الشياح، أو طريق صيدا القديمة كما تعرف، من شدة غضبه. يختنق صوت الشاب العشريني عندما يبدأ بتعداد أسماء الجنود الذين يقطنون في الشياح، والذين استشهدوا في حرب نهر البارد «هكذا ردوا الجميل للشيّاح؟» يتساءل.
علي (24 عاماً) نادم لأنه علّق صورة لقائد الجيش بعد حرب الشمال. ويشرح كيف شارك هو الآخر في نزع مجموعة من الصّور، أثناء حالة الوجع التي لفّت الشيّاح في ذلك الحين «ولم تشعر بها أي منطقة أخرى في بيروت»... هذا غير صحيح، إذ يمكن بوضوح ملاحظة حائط ملعب بيروت البلدي لكرة القدم، الذي يتجّول جنود الجيش اللبناني أمامه، وقد مزّقت صور قائد الجيش التي كانت تحتله بشكل مفاجئ، كما حصل إلى جانب مسجد الخاشقجي.
عين الرمانة تشارك العاصمة بجزء كبير من هذه الشعارات. صور الصليب المشطوب والعادي تنتشر بكثافة في الأحياء، وتسهل رؤيتها لكثرة عددها. أبو إيلي (60 عاماً) يرى أن «هذه هي هوية المنطقة منذ عقود، ولا يمكن لأحد أن يغيّرها». يستطرد في الشرح: «هذه هي حقيقة لبنان، على الأقل الصور هنا هي لشخصيات لبنانية، اذهب إلى بيروت الغربية أو إلى الضاحية وانظر الفرق».
وطى المصيطبة بدورها انضمت إلى رفيقاتها. احتلت صورة ضخمة للنائب وليد جنبلاط جدار مبنى مواجه لمحطة الزهيري (قبل نزعها أول من أمس)، فيما تحتل شعارات الحزب الاشتراكي جدران معظم الأحياء المجاورة.
رؤساء لبلد بلا رئيسالحملة عينها تنتقل إلى مناطق أخرى تقع تحت سيطرة «تيار المستقبل» الديموغرافية، كطريق الجديدة في مواجهة الجامعة العربية. ترتفع هناك صورة عملاقة للملك مذيّلة بتوقيع «شباب المنطقة»، لكن الهواء مزّقها، ولم تعد تظهر من الصورة إلا عينا الملك السعودي، على عكس الصورة العملاقة الأخرى في كراكاس حيث علقت الصورة بإتقان شديد. أعلام المملكة مرفوعة في أكثر من مكان من شوارع الحمرا الداخلية، في ظاهرة تلت حملة مبرمجة، علقت فيها يافطات الدفاع عن السعودية ودورها في لبنان.
جهاد (25 عاماً) أحد روّاد الحمرا الدائمين، يشير بإصبعه إلى إحدى هذه اللافتات من مكان جلوسه في مقهى «ستار باكس»، ويتساءل عن دور البلدية في السماح بعملية تشويه الشارع بالمهاترات السياسية، كما يصفها، أو الحدّ منها. يرغب أيضاً في معرفة «من هم هؤلاء الذي يوقّعون على هذه اليافطات»، لأنه يقطن في الحمرا ويتمشى في شوارعها يومياً، ولم يصادف أياً منهم في حياته.
يذكر ان محافظ مدينة بيروت بالتكليف ناصيف قالوش أصدر في 18 تشرين الاول الماضي بيانا «طالب فيه الجمعيات والمؤسسات والاحزاب بازالة اللافتات المعلقة على اعمدة الانارة او الموصولة بمبنيين على حافتي الطريق او باي وسيلة أخرى، بالنظر الى ما تشكله هذه اللافتات من خطر على السلامة العامة»، محذراً من «ان تخلف واضعيها عن رفعها او نزعها، يلزم البلدية القيام بهذا العمل على نفقة هؤلاء ومسؤولياتهم الخاصة»، وهو ما لم يحصل بالتأكيد، علماً ان البيان المذكور لم يضع مهلة محددة لازالة اللافتات والشعارات ما يوحي بأن المهلة مفتوحة الى ما شاء الله!
واللافت أن العلم السعودي موجود في الضاحية الجنوبية أيضاً، أي في المناطق المؤيدة للمعارضة اللبنانية، ففي شارع الأكراد المتفرّع من برج البراجنة، ثبت العلم الأخضر على بوابة المنزل الموجود من الطابق الأرضي، من دون أي مشكلات.
ويبدو الأمر لافتاً، لأن الصور التي ترتفع في بعض أحياء الضاحية هي للرئيس السوري بشار الأسد، لكن بلا تواقيع تذكر هذه المرة. في منطقة الكوكودي التي تعدّ من مداخل الضاحية الأساسية، يبتسم الرئيس الأسد في الصورة، التي تتضمن تحية له بوصفه «أسد العرب». فراس (19 عاماً) أحد الشبّان المقيمين في المنطقة، يقول بفخر شديد، إنه ساهم في تعليق هذه الصورة «عربون محبة ووفاء للرئيس السوري الذي دعم المقاومة»، ويشير إلى محطة للمحروقات (تبعد أمتاراً قليلة عن الصورة الأساسية)، سمّيت باسم الرئيس الأسد. قاسم (25 عاماً ) يسخر من الأمور التي تضفي على المنطقة طابعاً استفزازياً للفرقاء اللبنانيين الآخرين، وهو يدلنا إلى صورة أخرى للرئيس عينه في محيط برج البراجنة، وقد كتب عليها «صلّ على محمد وآل محمد»، ويطالب الجهات التي تمون على «أهل الضاحية» بنزع هذه الصّور في الحال، وحصر تعليقها داخل الممتلكات الخاصة.
أما الرايات التي تُحيّي الهيئة الإيرانية للإعمار فيبدو وجودها مبرراً ومقبولاً لأكثر من مواطن في الضاحية، «لأنها مرتبطة بالمساعدات، وهي توضع لتعريف الناس بمنشآت قدمتها الجمهورية الإيرانية».


... حتى في الباصات
لا تقتصر حدود الصراع على الجدران والأعمدة. لقد لاحقت الفوضى كل مكان تطاله الأيدي. الذين لم يتسنّ لهم تعليق اليافطات، استعملوا باصات النقل العام لكتابة آرائهم وتبادل الشتائم على أبوابه ومقاعده!
تمرّ هذه الباصات في مناطق سكنية متعددة. وغالباً ما تتنوّع «هوية» المناطق التي يمرّ فيها الباص نفسه، ما يسبب معاركَ ضارية وغير معلنة تبرز من خلال تشويه الباصات بالكلام النابي والشعارات السياسية.
أبو حسن رجل أربعيني، يقود باصاً للنقل العام منذ بضعة أشهر، أصرّ على عدم ذكر اسمه كاملاً خوفاً من أن يخسر عمله. يؤكد أنه رأى في الباص الذي يقوده، خلال أشهر قليلة، ما لم يره في بيروت كلها منذ ولادته!
«هذا الباص ينطلق من الضاحية الجنوبية لبيروت ويمرّ بمحاذاة عين الرمانة ويصل إلى الحمرا، ويمكنك أن تفهم ماذا يعني ذلك». يعترف أبو حسن بأن الباص لم يشهد أي عراك بالأيدي أو شجار أثناء عمله، لكنه يدلنا بنفسه إلى خلفيات المقاعد. كلام مذهبي وطائفي ومصطلحات نابية في أمكنة متعددة! على أحد المقاعد شطبت عبارة «لبيك يا نصر الله» ووضعت مكانها شتيمة كبيرة للأمين العام لـ«حزب الله»، وفي مقعد آخر، كتبت عبارة «فهود طريق الجديدة فهود الشيخ سعد»، وقد انحرف منها سهم بلون آخر وكتب أحدها عبارة «طز إكسترا» بخط كبير جداً. يصعب إحصاء كمية هذه الشعارات مهما حاولت الإدارة تنظيف الباصات منها، يؤكد أبو حسن بثقة قبل أن يعود إلى عجلة القيادة، متأهباً للانطلاق بين الشوارع من جديد.يبدو أن فشل السياسيين في الوصول إلى الاتفاق انتقل إلى الشعب علناً، وصار التناحر الإعلامي حالة يومية، تطارد الأمكنة بشراسة، وتستبيح بيروت بلا رحمة.