نقولا ناصيفقبل 48 ساعة من افتتاح القمة العربية في دمشق، أنهت الدول العربية الرئيسية، الأكثر اهتماماً بها، تبادل الرسائل السياسية، وبات عليها انتظار التئامها وصدور البيان الختامي، ومن ثم الانصراف إلى جولة أخرى وجديدة من المواجهة في الخلافات العربية ـ العربية. تضامنت مصر مع السعودية على خفض مستوى تمثيلهما في القمة. مضت سوريا في إصرارها على انعقادها فوق أراضيها وترؤسها إياها وتجاهلها الأزمة الدستورية والسياسية اللبنانية. قرر لبنان مقاطعة القمة تضامناً مع الذين تضامنوا معه في خفض مستوى مشاركتهم فيها واحتجاجاً على استمرار أزمته. أما الدول العربية الباقية ـ المعنية بنسب متفاوتة بأهمية انعقاد قمة دمشق وتوقيته في هذا الخضم ـ فاختارت المشاركة لأسباب شتى: بعضها تمسك باستمرار تقليد الانعقاد الدوري للقمة، والبعض الآخر التزم الحياد في الأزمة الناشبة بين السعودية وسوريا، والبعض الثالث راعى مصالحه التي تتطلب موقفاً يتقاطع عنده النفوذان السعودي والإيراني فلا يغلّب كفة على أخرى، والبعض الرابع راعى استثماراته المالية والاقتصادية في سوريا، والبعض الخامس تفهّم موقف دمشق من الصراع الحالي، والبعض السادس يَحْضر لأنه عضو في الجامعة العربية ليس إلا. وسواء اختارت هذ الدول المشاركة في القمة أو مقاطعتها ـ وهي ستحضر جميعاً ـ تفضّل البقاء على هامش النزاعات، شأن دول المغرب العربي وبعض دول الخليج.
وهكذا كانت القمم العربية لعقود، ولا تزال، قمم ثلاث دول تتنازع زعامة العرب وتقدّم إحداها على الأخرى. كان الرئيس جمال عبد الناصر أول ـ وأطول ـ مَن تزّعم قمماً عربية من منتصف الخمسينات حتى غيابه عام 1970، بعده ورثها الملك فيصل حتى اغتياله عام 1975، ثم ـ وبدءاً من عام 1976 حتى وفاته عام 2000 ـ لم تكن ثمة جدوى من قمة عربية لا يشترك فيها الرئيس السوري حافظ الأسد أو يرضيه بيانها الختامي. كان إلى يمينه مراعياً ومصالحاً العاهل السعودي (خالد ثم فهد)، وإلى يساره منافساً ومهدّداً عدوّه اللدود الرئيس العراقي (صدام حسين). لا قمة بلا جدة آنذاك، ولا قمة بلا دمشق. إلا أن مصر ظلت طوال عشر سنين مطرودة من الحظيرة العربية.
بذلك، فإن كلاً من مصر والسعودية وسوريا يتصرّف كأنه وارث طبيعي لشرعية الزعامة العربية لأنها تناوبت عليها وخبرتها.
لكن مغزى الرسائل المتبادلة بين مصر والسعودية وسوريا ولبنان يعكس مؤشرات من بينها:
1 ـ تصرّف العواصم المتنازعة على أساس أن قمة دمشق محطة في سياق الخلافات المفتوحة بينها. ولأن أياً من السعودية وسوريا لم يتحمّس لإجراء مصالحة تسبق انعقاد القمة، على الأقل على غرار المصالحة الشكلية التي قيل إنها رافقت قمة الرياض في آذار 2007، فإن كلا البلدين لن يستعجلها في المرحلة التالية لارفضاض القمة، وقد باتت لديه حجج إضافية لتسعير الخلاف سواء على صعيد العلاقات الثنائية أو حيال الملف اللبناني.
2 ـ لأن التهديد بتعطيل انعقاد القمة في دمشق استنفد دوافعه للضغط على سوريا، وحملها على تقديم تنازلات رئيسية في التسوية اللبنانية الداخلية بدءاً بانتخاب رئيس جديد للجمهورية، فإن السلاح الأمضى للضغط على سوريا في المرحلة المقبلة هو المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري الذي يظلّ مصدر إقلاق للنظام السوري بسبب حجم الضغوط الدولية التي يواجه بها حيال ذلك الاغتيال. الأمر الذي يجعل من المحكمة واستعجال الإجراءات الآيلة إلى مباشرتها عملها في الشهرين المقبلين ساحة جديدة للمواجهة الدولية مع دمشق، والعربية كذلك معها. وانسجاماً مع ما كان أسرّ به سفير دولة كبرى لوزير سابق بارز من أن اغتيال الحريري نجح في إخراج الجيش السوري من لبنان من غير أن ينجح في تغيير الحكم في سوريا، تتصرّف دمشق على أساس أن الإصرار على السير في المحكمة الدولية غايته الوصول إلى هذا الهدف. وفي أبسط الأحوال إدانة النظام لإضعافه من الداخل وزعزعته. الأمر الذي يجعل دمشق تتوجّس من استخدام هذا الملف في سياق الحملة الجديدة عليها، وتتوقع معركته في الأسابيع المقبلة.
وسواء سعت المحكمة الدولية إلى بلوغ هذا الهدف أو لا، فإن الخلاف السعودي ـ المصري مع دمشق، على حدته وقد أضحى أسير الاعتبارات الشخصية، لم يصل إلى حدّ المجازفة بتقويض نظامها، بل لا يزال في إطار السعي إلى تغيير سلوكه. ولا تعدو رسائل الامتعاض إلى دمشق، عبر خفض مستوى التمثيل في القمة لا مقاطعتها ولا إدانة النظام وتوجيه اتهامات مباشرة إليه، كونها ترجمة لرغبة القاهرة والرياض في حصول تغيير رئيسي في سلوك دمشق حيال جيرانها في لبنان وفلسطين والعراق.
3 ـ رغم موقف وزير الخارجية السوري وليد المعلم أمس من أن مقاطعة لبنان قمة دمشق حرمته فرصة ذهبية لمناقشة مشكلته فيها، وكذلك العلاقات اللبنانية ـ السورية مع الأسد، واقع الأمر أن هذه المقاطعة قدمت لدمشق الفرصة الذهبية التي غالباً ما تمسّكت بها على مرّ العقود الثلاثة المنصرمة، وهي ألا تشرك طرفاً ثالثاً في مناقشة العلاقات اللبنانية ـ السورية أو رعايتها. ورغم تسليم دمشق على مضض في قمتي الرياض والقاهرة في تشرين الأول 1976 بوضع الحرب اللبنانية حينذاك تحت المظلة العربية، ثم في حربي الأشرفية وزحلة عامي 1978 و1981 تحت مظلة الجامعة العربية، ثم تحت مظلة قمة الدار البيضاء عام 1989 التي أفضت إلى وضع اتفاق الطائف، نجحت باستمرار في حمل الدول العربية المعنية بلبنان ـ وبينها السعودية ـ على تبنّي وجهة نظر الرئيس حافظ الأسد في تحقيق الاستقرار في لبنان. وهو ما قدّمه اتفاق الطائف لدمشق بأن تفرّدت عام 1991 في رسم إطار العلاقات اللبنانية ـ السورية كما شاءتها من خلال نظام حكم موال لها. وبعد انهيار ذلك الواقع مع اغتيال الحريري عام 2005 وخروج الجيش السوري من لبنان، لم تعدّل دمشق مفهومها لطريقة بناء العلاقات اللبنانية ـ السورية التي تريدها ـ كما جرى دائماً ـ في حوار ثنائي بينها وبين جارها.
أما تحفّظها الضمني عن المبادرة العربية فلا يعدو كونه أحد مبررات وجهة النظر تلك. لا تريد حواراً لبنانياً ـ سورياً برعاية عربية أو أوروبية أو دولية، لكنها توافق حتماً على مبادرة تضع علاقات البلدين في عهدتهما وحدهما بلا رقيب أو راعٍ.