strong>«استعانت بريطانيا بالتنجيم لهزم هتلر»، هذا ما أظهرته وثائق سرية بريطانية كُشِف عنها قبل أيام، وبيّنت أن الاستخبارات البريطانية لجأت إلى منجّم ليتنبأ بأفكار الزعيم النازي خلال الحرب. هذا في بريطانيا قبل 60 عاماً. أما في لبنان اليوم، فيبدو «الطب الروحاني» المخالف للقانون شديد الرواج وفي ازدهار على مرأى من أجهزة تنفيذ القانونرضوان مرتضى
«أحضر إلى هنا منذ أربع سنوات، لأن الحديث إلى العرّافة يشعرني بالطمأنينة»، قالت الأستاذة الجامعية «سمر»، وهي من الزبائن الدائمين لواحدة من أشهر العرّافات في لبنان، «أم راجح»، التي زارتها «الأخبار».
عند الواحدة والنصف كان الموعد مع «أم راجح». تصعد خمس طبقات ماشياً بسب انقطاع الكهرباء. تصل في الوقت المحدد تماماً، لكنك لست وحيداً، إذ ينتظر الدورَ قبلَك 10 أشخاص. يتألف «مكتب» أم راجح من 3 غرف، أكبرها قاعة للانتظار وأخرى للمحاسبة، والثالثة غرفة العرافة.
الوافدون إليها من كل الأعمار، رجالاً ونساءً، متعلمين وأمّيين. أما أسباب قدومهم فمختلفة، أحدهم أضاع محفظته ويريد منها أن ترشده إلى مكانها، ويثق بأنها ستفعل لأن تجربة خالته خير برهان. وآخر تردد أولاً في الإفصاح عن سبب مجيئه ثم عاد وقال إنها المرة الأولى، والسبب حبه لفتاة لا تبادله الشعور نفسه، وهو يرجو أن تساعده العرّافة في لفت انتباه محبوبته، وقد أتى بناء على نصيحة زميلته في الجامعة. أكبر الموجودين كانت سيدة يبدو عليها التعب، سمح لها الشاب الجامعي بأن تأخذ دوره بعدما أخبرته أنها أتت للعلاج. أما أبرز الحاضرين فالأستاذة الجامعية التي رأت أنه «من الأسهل على اللبناني القول إنه قد تلبّسه جن على الاعتراف بأنه مريض نفسياً». المشترك بين الموجودين، إضافة إلى التوتر البادي على وجوههم، رغبة كل منهم في معرفة أسباب قدوم الآخرين، ناهيك عن الفرحة التي تبدو على وجوه الخارجين من غرفة «أم راجح».
يقال عن العرافة الشهيرة إنها لم تكن تتقاضى أجراً، إلا أن ضغط العمل اضطرّها لاستئجار شقة، مما رتّب عليها مصاريف إضافية، مع الأخذ بعين الاعتبار غلاء المعيشة، ودفعها إلى وضع تسعيرة: «30000 ليرة إذا مش مضيّع شي»، كما يطلب ابنها عقب ساعتين ونصف ساعة من الانتظار: تفضل بالدخول إنه دورك، وقتُك 15 دقيقة. وبعد قليل من الإلحاح، يضيف إلى رصيدك 5 دقائق.
تدخل إلى الغرفة الضيقة والمظلمة. على الأرض، تجلس سيدة ستينية ترتدي عباءة سوداء ووشاحاً أبيض، واضعة أمامها صحن طعام ملأته ماءً، وعلى الحائط الخلفي آية قرآنية. في يدها اليمنى مصحف وفي الأخرى علبة سجائر. «تفضل ماذا تريد أن تعرف»، قالت والابتسامة تعلو وجهها. «هل هناك حرب؟» تجيب بثقة العارفين: كلا. تسألها عن صديقة، فتطلب منك اسم والدتها. تحدّثك عن مواصفات خلقية وأخلاقية يمكن أن تنطبق على الصديقة، وعلى أي فتاة أخرى. تُنهي العرافة كلامها بعبارة تشبه أختام الدوائر الرسمية: «إن شاء الله رح بتكون من نصيبك».
الهبهاب وعظم الهدهد
«أم راجح»، التي يُقال إن سياسيين ونواباً ووزراء يقصدونها، ليست وحيدة مهنتها. فأبناء كارِها يتنافسون في ابتكار الطرق والأساليب التي تعطي «النتائج الأدق والأسرع»: فمنهم من سافر إلى الهند والمغرب والزنجبار ليصقل مهاراته ويتعمق في «علومه»، وآخر تمكن من الحصول على «عظم الهدهد وعرق السواحل والهبهاب»، وهي المواد التي «تعطي نتائج أكيدة» في «جلب الحبيب والغائب»، إضافة إلى قدرتها على الشفاء من «الأمراض التي يعجز الطب عن علاجها». «العلماء الروحانيون»، بعدما أصبحوا جاهزين، وضعوا أنفسهم تحت الطلب، وللتواصل معهم، ليس على الراغب سوى الحصول على إحدى الجرائد الإعلانية التي تغص بأسماء كـ«المدهش الروحاني» و«الباحث في عالم الأبراج وكشف الحقائق واستنطاق الأرواح»، وأخيراً هناك أم رزق لكنها «للسيدات فقط».
دراسة «الطب»
الإعلانات لا تقتصر على الترويج لممارسي هذه «المهنة»، بل تتعداها إلى وجود مدرّسين. وبتوافر بعض المؤهلات كـ«الإيمان والتقوى»، يُفتح الباب أمام من يودّ أن يحصل على لقب «طبيب روحاني». زارت «الأخبار» أحد الأساتذة، «أبو أحمد»، فقال: «خلال شهرين فقط تمتلك جنياً يلبي لك مطالبك. لكن هناك شروطاً يجب أن تتقيد بها: الطهارة والابتعاد عن المحرّمات، فضلاً عن اعتماد نظام غذائي خاص، تضاف إليه خلوتان تنقطع فيهما عن العالم، مدة الواحدة أسبوع كامل، تقرأ فيهما مجموعة من الأدعية والتعاويذ».
الاغتصاب
ما ذكره «أبو أحمد» عن الطهارة لا يشبه أبداً ما قالت «سمية» إنها عانت منه: «كانت كل أنحاء جسدي توجعني، ولم ينفعني الأطباء وأدويتهم، فقصدت أحد المشعوذين الذي قال إن جنّياً يتلبسني منذ صغري. وليعالجني، أمره الجنيّ الذي يعمل معه بممارسة الجنس معي. وفي حال الرفض، سأعاني من ملاحقة أحد ملوك الجن لي». تتابع سمية: «سلبني عذريتي، وأخذ مني 300 دولار». أما سبب عدم لجوئها إلى القضاء فقالت إنه الخوف من الفضيحة، وخاصة أن أهلها لا يعلمون بالأمر حتى اليوم. قضية «سمية» لم تصل إلى القضاء كما حصل مع «شيرين»، الفتاة التي ضُربت حتى الموت، والتي نشرت «الأخبار» قصتها يوم 8 آذار الجاري.
ولا بد من الإشارة إلى أن قانون العقوبات اللبناني ينص في المادة 768 منه على عقوبة «التوقيف التكديري والغرامة من عشرة آلاف إلى عشرين ألف ليرة من يتعاطى، بقصد الربح، مناجاة الأرواح والتنويم المغناطيسي والتنجيم وقراءة الكف وقراءة ورق اللعب وكل ما له علاقة بعلم الغيب...»، أما مكرّر الجرم فيعاقب بالحبس حتى 6 أشهر وبالغرامة حتى 200 ألف ليرة.
ورغم ذلك، يعمل «الروحانيون» على مرأى من أجهزة الدولة، بحسب ما قال لـ«الأخبار» أحد العاملين في مجال «الروحانيات»، الذي لا يخجل من التصريح بأن ما يقوم به هو «ضحك على العالم الخواريف». «الروحاني» يسمي عمله بـ«الشطارة»، مشيراً إلى أنه لا يمكن أن يمارس هذا العمل إلا إذا كان يتمتع بمؤهلات «الذكاء والثقافة واللسان الحلو». يضيف العراف أن الصحافة والإعلام «عملوا منها تجارة»، ويضرب مثلاً سهرة رأس السنة «التي لا تكتمل من دون من يطلعنا على المستقبل». ورأى «الشاطر» أن الدولة، عبر غض الطرف عن مكاتب العاملين في هذا المجال، ساهمت في انتشار هذه الظاهرة، فضلاً عن أن زيادة أعداد هؤلاء تشير إلى ازدياد أعداد من يؤمنون بهم. أما عن خوفه من أن يرفع أحد ضحاياه دعوى عليه فيرد مستهزئاً: «ستكون هذه سابقة، وهل سيحرقونني؟».