مليئة طريق الشام بالحواجز المؤلمة لعابر عليها للمرة الأولى، وخصوصاً إذا كان ممّن حفر في وجدانه دلالة مكثّفة لتسميتها السياسية، طيلة عقود ثلاثة. هي طريق «الوجود» و«الهيمنة» و«الوصاية» و«الاحتلال»، وسائر التسميات لواقع احترف رفضه والنضال ضدّهجان عزيز
الرحلة الأولى على طريق بيروت ــ دمشق، تبدو أقرب إلى سفر في الزمان، على قرب الجغرافيا ونأي المفاهيم والمواقف والثقافة.
الحاجز الأول يستوقفك في شتورة. في هذا السوبرماركت، كان يأخذ غازي كنعان استراحته. كان يأتي «الحاكم المتصرّف» على عجل دوماً. زجاجة باردة، قبل أن ينعطف صوب دارته. والدارة المقصودة ليست غير فيللا قدّمتها إليه وإلى سلفه وخلفه، إحدى متظاهرات 14 آذار 2005 لاحقاً. إلى هناك، عاد من نفيه الدمشقي قبل عامين من الثورة التي نحرها أيتامه. كان ذلك في آذار 2003، عشية حرب العراق. جاء بموكبه المجلجل. وافاه رفيق الحريري. وضعا سريعاً لائحة بأسماء حكومة المواجهة. بعدها عاد أبو يعرب إلى وزارته الداخلية، واستمر أبو بهاء في سراياه المستدخلة لعوامل الخارج وصراعاته.
كانت تلك حكومة «الوجود السوري الضروري والشرعي والموقت»... وتطبيقاً للطائف نفسه، على عكس ما روى مروان حماده مرة، بعد جرحه وثورته الردفعلية. لم يكتب الزميل الفرنكوفوني بيان حكومة شتورة ربما. وربما لم يفعل لإحساسه بالتعب من القرفصاء إلى جانب مقعد إميل لحود، في رحلة الساعات الطويلة التي رافقه فيها الى أميركا اللاتينية... عند مفترق عنجر، حاجز ثانٍ أكثر قسوة وإيلاماً. هناك، بين معالم الوعر تلك، كان رحم الطبقة السياسية والإعلامية اللبنانية، طيلة عقد ونصف. وكانت روايات وأساطير عن سياسة طبقات وطبقات سياسيين وتطبيقات وأرحام...
عند المصنع ينتصب الحاجز الثالث من زمان أكثر توغلاً في التاريخ وعِبره. بين هياكل المباني الرمادية، وأشباح السحنات المكسورة، تروح تبحث عن خيمة الحدود الشهيرة. عن فكرة معادلة بين استقلال واستقرار، عن مماثلة حقبتين وجنرالين، لمجرد المصادفة. واحد نصب الخيمة قبل نصف قرن بالتمام. وآخر أعاد التذكير بها قبل 20 عاماً كاملة: نفاوض السوريين على جلائهم في الدوار (قرب بكفيا، لمن لا يعرف جغرافيا السياسة اللبنانية) وعلى العلاقة الندية في المصنع. بعدها انقلب كل شيء. جاء الجلاء بلا حوار، وصار المصنع بلا علاقات ولا من يخيمون...
بعد أمتار قليلة، يقفز الحاجز الرابع على وقع قلب راعف: جديدة يابوس، هنا كانت تبدأ رحلة القهر لأمهات المفقودين على هذه الطريق. في شبه تلك الغرفة الإسمنتية، كانت تقف والدة أو شقيقة أو زوجة، مشروعات ثكالى وظلم. ينتظرن فتح دفتر عتيق كبير، بحثاً عن اسم ضائع لإنسان تاه في بطن الحوت. لم يقفل الملف بعد. لم ينته الظلم. لم يعط الحق ولم تعرف الحقيقة. حاجز مستدام لكل عابر لطريق الشام، من دون أن يعبر على وجدانه واقتناعاته والحق...
في دمشق، تسقط الحواجز اللبنانية. يجهد لطفٌ أقرب إلى العفوية منه إلى الواجب المسلكي الدؤوب، على إزالتها من أمام عينيك. لكن حواجز أخرى تحل مكانها. حواجز هي الأخرى مزيج من سفر الزمان والمكان. رمادية دمشق، شكلاً وروحاً. تستذكر أسطورة ربيعها. تبحث عنه بين مظاهر الأسى والبؤس. تتذكر مقولة أطلقتها ذات يوم حفنة حالمة في ما كان يسمّى لقاء قرنة شهوان: إن حل الأزمة اللبنانية بكل مكوناتها، يقتضي تحقق الثلاثية التالية: دولة السيادة في لبنان، دولة الاستقلال في فلسطين، ودولة المعاصرة في سوريا. تدرك فوراً وتستدرك، كم أن الحلم كان كبيراً، وبعيداً. وكم كبر اليوم وبعد. أنت الآتي إلى قمة دول عربية، فيها الفلسطينيون على عتبة نزاعات التدمير الذاتي، واللبنانيون على حافة هاوية «اللادولة» والسوريون بين نموذجي العراق ما بعد صدام ولبنان ما بعدهم... كم كان الحلم كبيراً، وبعيداً، كم بات أكبر وأبعد.
ذات مرة، كتب جوني عبده نفسه، أن المسيحيين في لبنان لا يزالون، منذ ما بعد بشير الجميل، يبحثون عمن يصالحهم مع سوريا. مع تراجع المسيحيين عن موقع الفاعل والمؤثر في لبنان، صارت معادلة المصالحة مع دمشق مطروحة على كل اللبنانيين، من دون استثناء. وصار لها مقتضيان واضحان: سلطة في بيروت متطهّرة من زمن الوصاية، ممارسات وأشخاصاً وأوهام استبدال واستدامة. وسلطة في دمشق تقول كل الحقيقة عن أخطاء تلك الحقبة وخطاياها، فتعتبر وتعتذر وتستغفر، كما لم يفعل لبنانيّوها.
غالباً ما يستذكر أصدقاء جوزف سماحه قوله، إنّ المطلوب فتح ملف العلاقة اللبنانية السورية على المكاشفة والمصارحة المطلقتين، من أجل الوصول إلى تحميل عادل للمسؤوليات بين الطرفين.
زائر دمشق للمرة الأولى، يحسّ بمسؤوليّة قول ذلك وواجبه وأكثر.