نقولا ناصيفقبل أن يقرّر لبنان مقاطعة القمة العربية في دمشق، في جلسة مجلس الوزراء الثلاثاء الفائت (25 آذار)، كان قد تلقى إشارات واضحة من السعودية ومصر والأردن بخفضها مستوى تمثيلها فيها. ولأن بعض هذه الأنظمة ملكي، والبعض الآخر يتصرّف بملكية، لم تكشف لمراجعيها من اللبنانيين طبيعة التمثيل المتدني.
بعض تلك الإشارات حصل عليها لبنان في القمة الإسلامية في داكار (13 آذار). تبلغ من الرياض أن أياً من الملك عبد الله ووزير الخارجية سعود الفيصل لن يحضر، بيد أن التمثيل سيكون الأدنى في تاريخ علاقة المملكة بقمة عربية. ومن مصر أن أياً من الرئيس حسني مبارك أو رئيس الحكومة أحمد نظيف لن يحضر القمة، مع شكوك في احتمال مشاركة وزير الخارجية أحمد أبو الغيط، فإذا بالوزير الحاضر مفيد شهاب لا تماس له بالملف اللبناني ولا يدخل في نطاق اهتماماته. ومن الأردن تأكيد قاطع بغياب الملك عبد الله الثاني مع تلميح إلى احتمال تمثيل المملكة بوزير الخارجية صلاح الدين البشير. وعندما شارك الأخير في اجتماع وزراء الخارجية الخميس الفائت بدا أنه سيمثل الملك، إلى أن فوجئ المسؤولون اللبنانيون قبل ساعات من انعقاد القمة بتمثل الأردن بسفير.
كان خفض مستوى تمثيل هذه الدول أحد الدوافع غير المعلنة لحكومة الرئيس فؤاد السنيورة، كي تقاطع قمة قاطعتها السعودية ومصر والأردن ضمناً تضامناً مع لبنان حيال استمرار أزمته، واحتجاجاً على إصرار سوريا على التدخّل في الشأن اللبناني وعرقلة التسوية الداخلية. أما الدافع الآخر غير المعلن، فهو أن مجلس الوزراء اكتشف في جلسة 25 آذار وجود ثلاثة اتجاهات تتجاذب موقفه، لكنها لا تتعارض في نهاية المطاف: وزراء متمسّكون بمقاطعة القمة وإن اضطروا للتصويت ضد أي قرار معاكس، ووزراء غير متحمسين للمشاركة فيها، ووزراء لامبالون بإزاء ما قد ينتظره لبنان من القمة. كان وزراء الصنف الأول الأكثر ترجيحاً لموقف المقاطعة، متبنّين وجهة نظر النائب وليد جنبلاط وتيار المستقبل والقوات اللبنانية. وبذلك خرج مجلس الوزراء بقرار كان قد توقع صدوره الوزراء سلفاً.
لكن الجانب الآخر، الأكثر أهمية، في قرار حكومة السنيورة ـ إلى المبرّرات التي حدّدها رئيسها عن استمرار شغور رئاسة الجمهورية ومسؤولية سوريا عنه ـ يكمن في سعي الغالبية الحاكمة إلى تصويب وجهة المبادرة العربية في النطاق الأدق لمقاربة الأزمة اللبنانية، وهو توجيه الانتباه إلى أن لبّ الأزمة يقيم في العلاقات اللبنانية ـ السورية. ومع أن وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الثالث في القاهرة (5 آذار) تحضيراً لأعمال قمة دمشق، أدرجوا بند علاقات البلدين في متن المبادرة العربية، إلا أن خطاب السنيورة إلى القمة والزعماء العرب بدا أكثر استعجالاً لفتح هذا الملف بدعوته إلى اجتماع استثنائي لوزراء الخارجية للخوض فيه كمفتاح حلّ للأزمة اللبنانية. وهو بذلك رسم إطاراً مغايراً للحل يتناقض والموقف السوري ـ وأعاد الرئيس بشار الأسد تأكيده أمس في افتتاح قمة دمشق ـ القائل إن التسوية هي بين لبنانيين مختلفين في ما بينهم، وإن الحل ينبثق منهم وحدهم.
واقع الأمر بالنسبة إلى حكومة السنيورة، وفق مصادر حكومية بارزة، أن الجهود التي بذلتها هذه في الأشهر التسعة المنصرمة رمت إلى جعل ملف العلاقات اللبنانية ـ السورية بنداً أول لمعالجة الأزمة السياسية والدستورية اللبنانية. وهو مبرّر اجتماع وزراء الخارجية العرب في القاهرة في 15 حزيران الماضي، عندما التأم لمناقشة شكوى لبنانية ضد سوريا اتهمتها بتهريب أسلحة إلى الداخل اللبناني، سبّبت قبل شهر من ذلك اعتداءات «فتح الإسلام» على الجيش اللبناني (20 أيار)، وزعزعة الاستقرار. وكان قد سبق ذلك بأيام اغتيال النائب وليد عيدو (13 حزيران). سرعان ما أرسلت الجامعة العربية، بعد إصدارها بياناً تناول ضرورة معالجة العلاقات اللبنانية ـ السورية، إلى بيروت وفداً منبثقاً من اجتماع وزراء الخارجية برئاسة الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى ما بين 19 حزيران و21 منه. وعوض أن يخوض في دوافع الشكوى اللبنانية والاتهامات الموجهة إلى سوريا عن تهريبها أسلحة إلى لبنان، انخرط الوفد في تفاصيل المشكلة اللبنانية بشقها الداخلي، وتحديداً موقفي الموالاة والمعارضة من تأليف حكومة الوحدة الوطنية. فاستنفدت الوساطة العربية مهمتها قبل أن تصل إلى جوهر ما هو منوط بها، ومن غير أن تصل إلى نتيجة تبعاً لذلك. بل في أبسط الأحوال نجحت سوريا في توجيه المهمة في منحى لبناني ـ لبناني، لا في المنحى اللبناني ـ السوري. الأمر نفسه سلكته الوساطة الثانية لوزراء الخارجية العرب في 5 كانون الثاني الفائت، عندما طرحوا مبادرة البنود الثلاثة. وكي تحوز هذه إجماعاً يضمن إقرارها، عامل الوزراء العرب دمشق على أنها طرف غير معني مباشرة بالأزمة، بأن حضّوها على المساعدة هي الأخرى لوضع المبادرة العربية موضع التطبيق. واسترضت وساطة من ضمن الوساطة قامت بها قطر لدى الأسد لصوغ بنود تجعل المشكلة بين أيدي اللبنانيين، وتجعلهم المتسببين بالمأزق والمعنيين بالخروج منه. فكان أن خسرت الحكومة اللبنانية جولة ثانية في محاولة حصر أسباب تعثّر الحلّ في لبنان بعراقيل سورية، توجب حكماً فتح ملف العلاقات اللبنانية ـ السورية. نجحت دمشق في 27 كانون الثاني في اجتماع الوزراء العرب في نزع الإجماع عن المبادرة وتجميدها بعد رفضها تفسيراً التقى عليه أبو الغيط وموسى.
في هذا السياق يكمن خطاب رئيس الحكومة. بل الأصح مبادرته حيال قمة قاطع المشاركة فيها. ويستند بدوره إلى ملاحظات أبرزها:
1 ـ ليس لدى السنيورة وحكومته أوهام بانعقاد قريب لوزراء الخارجية العرب لوضع اليد على ملف العلاقات اللبنانية ـ السورية. ولأن العرب أخفقوا تماماً في الأشهر التسعة المنصرمة في وضعه تحت مظلة الجامعة العربية لأسباب اتصلت بالجهود المبذولة لتحقيق مصالحة سعودية ـ سورية، وإمرار انعقاد قمة دمشق بلا عراقيل، أضحى الأمر الآن أكثر تعقيداً في ضوء نتائج سلبية متوقعة من القمة، وكان افتتاحها أصدق تعبير عن حجم الانقسامات والخلافات بين الدول العربية، وأخصّها الواسعة النفوذ في لبنان، وتحديداً سوريا والسعودية.
2 ـ رمى خطاب السنيورة إلى التعامل مع الأزمة السياسية الناشبة بين الموالاة والمعارضة على أنها جزء من المشكلة، لا المشكلة كلها. تالياً فإن مقاربة العلاقات اللبنانية ـ السورية على نحو متكافئ يراعي مصالح كل من البلدين، ويضع حداً لتدخّل أحدهما في شؤون الآخر يمثل مفتاح الحلول الأخرى. بل ترى حكومة السنيورة أن حلّ الأزمة الأمّ يفضي إلى تفاهم اللبنانيين على حلّ خلافاتهم على تقاسم السلطة، لا العكس.