عرض الرئيس السوري، بشار الأسد، في كلمته خلال افتتاح القمة العربية في دمشق، مجمل ملفات المنطقة، وفي مقدمتها لبنان عملية السلام والعلاقات العربية العربية، إضافة إلى ملف العراق، وغيرها من القضايا العربية المطروحة. وفي ما يأتي أبرز ما جاء في كلمة الرئيس السوري:أرحب بكم أصدق ترحيب باسمي وباسم الشعب العربي السوري، في بلدكم سوريا الذي يستقبلكم بكل الحب والتقدير، والأمر في أن يكون هذا اللقاء بين الأشقاء لقاء خيرٍ للأمة العربية التي يتطلع أبناؤها لتحقيق التضامن والكرامة والازدهار في فترة صعبة من تاريخها الحديث.
إن انعقاد هذه القمة العربية في سوريا وفي هذه المرحلة الحرجة هو شرف ومسؤولية كبرى نعتز بها انطلاقاً من إيماننا بأهمية العمل العربي المشترك وحيويته لأمتنا العربية المتطلعة لأخذ مكانها اللائق في عالم اليوم.
ولقد عملنا بكل إمكاناتنا على تهيئة الظروف المناسبة لإنجاح هذه القمة وسعينا لتجاوز الكثير من العقبات التي تعترض سبيلها، ولا سيما أننا ندرك جميعاً صعوبة المرحلة ودقة التطورات التي تشهدها منطقتنا، بحيث لا نغالي إذا قلنا إننا لم نعد على حافة الخطر، بل في قلبه ونلمس آثاره المباشرة على أقطارنا وشعوبنا. وكل يوم يمر دون اتخاذ قرار حاسم يخدم مصلحتنا القومية يجعل تفادي النتائج الكارثية أمراً بعيد المنال.
ومهما تكن آراؤنا في طبيعة هذه الأخطار وأسبابها وسبل مواجهتها، (ومن الطبيعي أن يحمل أبناء الأسرة الواحدة أفكاراً متعددة تجاه القضية الواحدة)، فإن ما لا شك فيه أننا جميعاً في قارب واحد أمام أمواجها العاصفة، وأنه لا بديل لنا من التشاور والتضامن والعمل المشترك لتوحيد صفوفنا واستعادة حقوقنا وإنجاز التنمية لبلداننا.
فنحن نعيش اليوم في عالم يشهد تحولات بالغة الأهمية ترسم اتجاهاتها القوى الدولية الكبرى، ما دفع العديد من دول العالم لتشكيل تجمعات إقليمية تدعم قوتها وتعزز مصالحها، حتى ولو لم يكن هناك أي جامع آخر في ما بينها، فحري بنا أن نجتمع ونتعاون ونحن نشكل تجمعاً قوياً طبيعياً يمتلك كل عوامل النجاح التي تتجاوز ما يمكن أن يملكه أي تجمع آخر في العالم، وخاصة أننا نعيش جملة من التحديات التي تهدد تماسك بنياننا عبر الصراع بين أبنائه، أو هدفاً للعدوان والقتل والتدمير من قبل أعدائنا.
ولا شك أن هناك عقبات تواجه رغباتنا وتطلعاتنا إلى تحقيق ما نريد، ذلك أنه، وعلى الرغم من اتفاقنا في معظم الأحيان حول الأهداف، فإن ثمة تقديرات متباينة في الرؤية وطريقة المعالجة. وهذا ليس مشكلة عندما يتوافر الحوار الصادق. فحوارنا وعمق قناعتنا بضرورة المبادرة إلى اتخاذ مواقف فاعلة سيزوداننا بالقدرة على تجاوز الصعاب من خلال معالجتها بواقعية وصراحة أخوية وبتطلع صادق نحو المصلحة العربية العليا.
أيها الأخوة الأعزاء،
عُقدت قمم عديدة خلال العقود الماضية، منها أتى في مراحل مفصلية، نجحنا في مواقع ومراحل ولم ننجح تماماً في أخرى. وإذا كان الوضع العربي غير مرضٍ لنا، فهذا لا يرتبط بالقمم بحد ذاتها، بمقدار ما يرتبط بسياق العلاقات العربية ـــ العربية والظروف التي أحاطت بها في الماضي والحاضر والتي انعكست نتائجها على القمم العربية. ومع ذلك تمكنّا في محطات عديدة من تبني مواقف تعبِّر عن مصالح الأمة العربية عندما توافرت الإرادة لذلك. وإذا كانت الحروب والاحتلالات هي من أخطر القضايا التي واجهتنا خلال العقود الماضية، فإن معركة السلام لم تكن أقل أهمية منها. ولقد أدركنا جميعاً أهمية السلام منذ سنين طويلة، وعبَّرنا عن ذلك بكل الأوقات وبطرق مختلفة، ابتداءً من إعلاننا منذ أكثر من ثلاثة عقود إيماننا بالسلام العادل والشامل واستعدادنا لإنجازه، مروراً بمؤتمر مدريد عام 1991، وصولاً إلى مبادرة السلام العربية عام 2002 التي شكلت تعبيراً واضحاً لا لبس عن نيتنا كدول عربية مجتمعة لتحقيق السلام، إذا ما أبدت إسرائيل استعدادها الفعلي لذلك.
وعلى الرغم مما قمنا به، وإذا وضعنا جانباً سلوك إسرائيل العدواني عبر تاريخها، فكيف كان الرد الإسرائيلي على هذه المبادرة؟ مباشرة بعد المبادرة قامت إسرائيل باجتياح الضفة الغربية وحصار شعبنا الفلسطيني وقتل الأطفال والنساء، وكلنا يتذكر مجزرة جنين ومئات الشهداء الذين سقطوا فيها، واستمرت في بناء المزيد من المستوطنات، وأقامت الجدار العنصري العازل، وأتبعت ذلك بالعدوان على سوريا ولبنان وأمعنت في تنفيذ الاغتيالات السياسية، وعملت بدون توقف على دفع الرأي العام الإسرائيلي باتجاه المزيد من التطرف والتزمت تجاه العرب ورفض الاستجابة لمتطلبات السلام العادل والشامل، بما يتوافق مع سياساتها المعادية للسلام، كل ذلك تحت أنظار العالم وعدم قدرته على اتخاذ أي موقف فاعل وحاسم لردعها عن أعمالها، وتحت عنوان ضمان أمن إسرائيل كذريعة تروّجها إسرائيل ومن يدعمها لتبرير أعمالها العدوانية.
وبمعزل عن طرح مفهوم الأمن من جانب واحد وكأن أمن العرب لا يؤخذ في الحسبان. والذي يثبت النظرة العدوانية تجاه العرب أفراداً ودولاً، فإننا نؤكد أن الأمن لن يتحقق لأحد إلا من خلال السلام، وليس من خلال العدوان والحروب التي لن تجلب سوى المزيد من الآلام، والسلام لن يأتي إلا من خلال الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة واستعادة الحقوق كاملة، وهذا يعني أن الطرح الإسرائيلي للأمن أولاً، غير قابل للتحقيق، لأن الاحتلال يناقض الأمن والسلام معاً، ولأن الأمن إن لم يكن متبادلاً ويشمل الجانب العربي فهو مجرد وهم ولا وجود له، إلا إذا كان أصحاب هذا الطرح يفترضون أو ينتظرون من أصحاب الأرض أن يسلّموا بالاحتلال، وأن يقبل الأحرار بالتحول إلى عبيد. ومن استقراء تجارب التاريخ نرى هزيمة هذا المنطق، وإن وجد في بعض اللحظات فهو مؤقت ومخادع ولا يليه سوى المزيد من الحروب والدمار والندم..
وإذا كنا لم نوفر فرصة إلا وعبّرنا فيها، على المستوى العربية، عن رغبتنا في السلام، وآخرها كان من خلال مشاركتنا في مؤتمر أنابوليس، فإن إسرائيل انتهزت كل الفرص أيضاً، لكن لتثبت العكس تماماً، لتثبت غطرستها ورفضها تطبيق القرارات الدولية ولتبرهن عن تجاهلها لحقوقنا ولكل مبادراتنا من أجل السلام.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل نترك عملية السلام والمبادرات رهينة لأهواء الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، أم نبحث عن خيارات وبدائل من شأنها تحقيق السلام العادل والشامل والكفيل بإعادة الحقوق كاملة دون نقصان؟ أي هل نقدم مبادرات غير مشروطة يختارون منها ما يشاؤون ومتى شاؤوا؟ هل تتأثر مبادراتنا بالسياسات العدوانية، أو بالمجازر الإسرائيلية أم هي طروحات مطلقة غير مرتبطة بتوقيت أو بظروف؟
وإن لم يكن في هذه الطروحات الآنفة أي دعوة للهروب إلى الأمام من خلال الحروب على الطريقة الإسرائيلية، فليس فيها بكل تأكيد أي قبول للهروب إلى الوراء من خلال الخضوع والإذعان للإملاءات الإسرائيلية، بل هي دعوة لمراجعة مضامين خياراتنا الاستراتيجية والبحث عن الموقف المتوازن الذي يوائم ما بين متطلبات السلام العادل والشامل، وما يعنيه من عودة الأراضي المحتلة وضمان الحقوق المشروعة من جانب، وتوفير الحد الأدنى من عناصر الصمود والمقاومة، طالما أن إسرائيل ترفض السلام وتستمر في العدوان، من جانب آخر. وها نحن اليوم نجتمع ودماء شهداء مجازر إسرائيل بل محارقها كما هم أطلقوا عليها في غزة لم تجف بعد أمام صمت العالم وغضب الإنسان العربي وأمام استنكار صاحب كل ضمير حي.
وإننا إذ نعبّر عن ألمنا وإدانتنا لما يتعرض له شعبنا الفلسطيني في غزة والضفة الغربية من قتل وحصار ودمار بفعل آلة القتل الإسرائيلية، وعن حزننا لما آلت إليه الأوضاع على الساحة الفلسطينية من انقسام وفرقة، فإننا نرى أن الأولية يجب أن تكون للحوار بين الفلسطينيين. ونقول للأخوة الفلسطينيين إن عدوكم سيستغل أي انقسام من أجل تنفيذ المزيد من المجازر بحقكم وبحق أبنائكم وهو لا يفرق بين أي عربي، سواء كان فلسطينياً أو من أي قطر عربي آخر. فلا تقعوا في وهم أن يفرق بين فلسطيني وآخر أو بين الضفة وغزة ولا بين منظمة وأخرى. كل هذا يستحق منكم التسامي على أي سبب للخلاف مهما كبر شأنه، فوحدة الموقف العربي وفاعليته، بشأن القضية الفلسطينية يتأثر بالضرورة بوحدة موقفكم، فهي ضمانتكم وضمانة شعبكم وقضيتكم، وهي الطريق الوحيدة لاستعادة حقوقكم، في مقدمتها استعادة الأرض وعودة اللاجئين، ونعبّر هنا عن تقديرنا لجهود الأشقاء في اليمن ودعمنا للمبادرة اليمنية لاستئناف الحوار التي نراها إطاراً مناسباً للاتفاق بين الأطراف الفلسطينية، كما ندعو للعمل على الكسر الفوري للحصار المفروض على غزة من قبلنا كدولة عربية أولاً كمقدمة لطلب ذلك من دول العالم.
وفي إطار الحديث عن الحقوق، فإننا نؤكد في سوريا أن السلام لن يتحقق إلا بعودة الجولان كاملاً حتى خط الرابع من حزيران عام 1967، وأن المماطلة الإسرائيلية لن تجلب لهم شروطاً أفضل ولن تجعلنا قابلين للتنازل عن شبر أو حق. وما لم يتمكنوا من الحصول عليه من تنازلات من قبل سوريا سابقاً، لن يحصلوا عليه لاحقاً. أما الرهان على الزمن بهدف انتفاء الحقوق بالتقادم أو بالنسيان فلقد ثبت عدم جدواها، لأن الزمن أنتج أجيالاً أكثر تمسكاً بالأرض والتزاماً بالمقاومة.
أما في لبنان فإننا نشعر بالقلق للأوضاع التي يمر بها والانقسام الداخلي الذي يحول حتى الآن دون الاتفاق على قواسم وطنية مشتركة.
وعلى الرغم مما يُثار حول هذه الأوضاع، فإننا نؤكد حرصنا على استقلال لبنان وسيادته واستقراره. وانطلاقاً من الشفافية التي تجمع بيني وبين إخوتي قادة الدول العربية فإني أرى من الضروري أن أوضح ما أثير حول ما يسمى التدخل السوري في لبنان، والدعوات والبيانات والضغوطات لإيقافه. وأقول لكم بكل صدق إن ما يحصل في الواقع هو عكس ذلك تماماً. فالضغوط التي مورست وتمارس على سوريا منذ أكثر من عام وبشكل أكثر كثافة وتواتراً منذ أشهر، هي من أجل أن تقوم سوريا بالتدخل في الشؤون الداخلية للبنان وكان حوارنا واضحاً لكل من طلب منا القيام بأي عمل يصب في هذا الاتجاه، وهو ما سأؤكده أمام هذه القمة أن مفتاح الحل بيد اللبنانيين أنفسهم، لهم وطنهم ومؤسساتهم ودستورهم ويمتلكون الوعي اللازم للقيام بذلك، وأي دور آخر هو دور مساعد لهم وليس بديلاً عنهم. ونحن في سوريا على استعداد تام للتعاون مع أية جهود عربية أو غير عربية في هذا المجال، شرط أن ترتكز أية مبادرة على أسس الوفاق الوطني اللبناني، فهو الذي يشكل أساس الاستقرار في لبنان وهو هدفنا جميعاً.
أما العراق الشقيق الذي يعاني أوضاعاً قاسية فإنه يتطلب منا تضافر الجهود لدعمه ومساعدته في تحقيق سيادته وامنه واستقراره، على أساس من الوحدة الوطنية التي تضمن جميع مكونات الشعب العراقي، نقطة البدء فيها تحقيق المصالحة الوطنية بين أبنائه وصولاً إلى تحقيق الاستقلال الكامل وخروج آخر جندي محتل.
ولا شك أن استقرار العراق يعنينا جميعاً، فمن غير الممكن أن تستقر منطقتنا العربية بشكل خاص والشرق الاوسط، وربما أبعد بشكل عام، والعراق مضطرب كما هي حاله اليوم، واستقراره مرتبط بوحدته التي ترتبط بدورها بهويته وانتمائه العربيين. في هذا الجانب، فإننا نحمل مسؤولية تعزيز الحضور العربي في العراق بالتعاون والتنسيق مع حكومته.
فعلى الرغم من أهمية الدعم الدولي والإقليمي، فكلاهما لا يشكل بديلاً لدورنا في الحفاظ على استقرار العراق وعروبته.
وفي خضم القضايا الكثيرة التي تشغلنا، تأتي ظاهرة الإرهاب كواحد من التحديات الراهنة التي تواجهنا. وفي الوقت الذي نعبّر عن إدانتنا للممارسات الإرهابية التي تستهدف الأبرياء ووقوفنا الحاسم ضد الإرهاب، فإننا نؤكد على اعتبار مقاومة الاحتلال حقاً مشروعاً للشعوب تكفله المواثيق الدولية والأعراف الإنسانية، كما نؤكد على اعتبار إرهاب الدولة الإسرائيلية ضد أبناء شعبنا العربي يمثل أكثر أشكال الإرهاب فظاعة في العصر الحديث.
لقد شهدت العلاقات البينية العربي تنامياً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، ولا سيما على المستوى الاقتصادي، مع تطبيق اتفاقية منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى. كما أن اتجاه الاستثمارات العربية نحو البلدان العربية يعد بمزيد من النمو. أما في الجانب الثقافي والتربوي فأمامنا الكثير من العمل في ظل هجمة خارجية ثقافية خطيرة، تؤثر على انتماء الأجيال الناشئة لثقافتهم القومية الأم. والمنطلق لأي إنجاز في هذا المجال، هو العمل على تمتين اللغة العربية على المستوى القومي باعتبارها الحامل الرئيسي لثقافتنا وانتمائنا وذاكرتنا، وفقدانها يعني فقدان التاريخ، وبالتالي فقدان المستقبل. وأمام القمة مشروع لربط اللغة العربية بمجتمع المعرفة كي تكون لغتنا لغة للثقافة والحياة تحفظ كياننا وتصون هويتنا الحضارية.
ويجب أن نمضي في عملية الإصلاح الداخلي الذي يلبي متطلباتنا الوطنية والتنموية وينسجم مع معطياتنا الثقافية، وألا نتهاون في رفض أي شكل من أشكال التدخل في شؤوننا، مهما اتخذ من عناوين ومهما توسل من أساليب واعتمد من أدوات. فتجارب الأمس واليوم دلّلت كم كان مكلفاً فرض التغيير من الخارج، وكم كان مُكلفاً فرض نماذج سياسية أو اقتصادية مسبقة على الدول النامية.