strong>مناضلة سياسية واجتماعية لم تتنازل عن مرتبتها منذ «السرتفيكا»
مثّلت زينب مقلّد نموذجاً مميزاً من النضال النسوي. يمكن التعريف بإنجازاتها في الحياة بوضع صفة «الأولى» أمام كلّ منها: معلمة عربصاليم الأولى، أسست مع نساء عربصاليم أول مستوصف صحي، وأول فريق لفرز النفايات في الجنوب

كامل جابر
حازت زينب مقلّد شهادة السرتفيكا قبل بلوغها الثالثة عشرة من العمر، عام 1949، وحلّت في المرتبة الأولى على لبنان. تابعت دراستها لتحقق الشهادة التعليمية عام 1955وعينت في مدرسة المصيطبة الرسمية التي تديرها معلمتها السابقة نبيهة البعيني. منها انتقلت بعد سنة إلى النبطية للتعليم في مدرسة البنات، نزولاً عند رغبة زوجها، ابن خالتها، عبد الرضا نور الدين، في العودة إلى عربصاليم. في ذلك الوقت استمرّت في متابعة دراستها، ونالت شهادة الثانوية السورية الموحّدة، ثم إجازة اللغة العربية وآدابها عام 1970 في الجامعة العربية.
خلال سنوات الدراسة، انتظمت التلميذة زينب في صفوف المناضلين ضد حلف بغداد، وناصرت الثورة الجزائرية متأثرة بالثائرة جميلة بوحيرد، «كنت في مقدمة أي تظاهرة تتعلق بهذه القضية. رحمة الله على مديرتنا سلمى قربان، كانت تسأل عني عند انطلاق أي تظاهرة. وقد أقفلت في أحد الأيام بوابة المدرسة الرسمية للبنات في زقاق البلاط ونادت عليّ: زينب لماذا الإضراب، ما علاقتنا بالجزائر؟ فأجبت: كيف لا؟ الجزائر بلد عربي، ونحن عرب، يجب علينا نصرة إخواننا هناك، وهذا الإضراب جزء من التضامن». رغم ذلك «يوم احتجت إلى شهادة حسن سلوك لتقديمها إلى دار المعلمين، قدمتها لي وكتبت فيها «بنت مميزة وقوية الشخصية»، مع أن هذا الأمر قد لا يعجب القيمين على دار المعلمينبين عامي 1956 و1965، أنجبت أولادها الستة: ندى، ناصر، نمير، أحمد، علي، وغسان. ويوم تقدمت إلى الشهادة الموحدة السورية «كنت حاملاً بابني الأخير. كانت الامتحانات في شهر تموز وأنا وضعته في آب، من هنا أقول: إذا أحسنّا استخدام الوقت واستغلاله، يمكننا فعل الكثير، يعني كنت أتعلم وأربي إخوته وأقوم بكل شؤون البيت، وخصوصاً أنه كان مفتوحاً لاجتماعات وزيارات ولقاءات تكاد لا تنتهي. أحياناً كانت أمي تهتم بالأطفال وترعاهم، وما ساعدني أن إجازة الأمومة كانت ثلاثة أشهر». وسط كلّ هذه المسؤوليات «بقيت أجد وقتاً للدرس، أغسل الأطباق والكتاب فوق الحنفية، أردد جمله وكلماته، أو أنقر الكوسا والكتاب أمامي. ويوم توجهت للمعاينة في الجامعة الأميركية، كنت حاملاً بناصر، حفظت 120 صفحة بينما كنت أنتظر بالدور، فضلاً عما حفظته خلال الانتقال في السيارة. وبرغم كون زوجي معلماً ومديراً، إلا أن تدريس الأولاد كان من نصيبي، إضافة إلى أنه كان متطلباً (توفي الشهر الفائت) ولا نقاش في حقوقه».
عام 1958 انتقلت إلى مدرسة عربصاليم الرسمية، لتكون المعلمة الأولى فيها. بعدها بعام واحد لحق بها زوجها مديراً للمدرسة التي سبق أن علّم فيها مطلع الخمسينيات. بقيت فيها حتى عام 1970، بعدما حصلت على الإجازة في الأدب العربي ثم الماجستير. ولأنها كانت من الأوائل في المباراة انتقلت لتدريس مادة الأدب العربي في ثانوية الصباح الرسميةتقول: «عندما أتيت إلى عربصاليم، كانت قرية فقيرة بامتياز، وأهلها يعتمدون على زراعة الفجل والجزر الأحمر. العين كانت في الساحة، وكانوا يحملون إليها المحصول لغسله، تشمّر النساء عن سيقانهن ويغطسن لغسل الجزر، فتتحول الساحة إلى مرتع للأوساخ. أما المدرسة فكانت مؤلفة من ثلاث غرف في بيت الحاج محمود سعادة، ثم ضمت إليها غرفة كانت بركة مياه وأطلق عليها «صف البركة». لم يكن مألوفاً أن يكون المعلم سيدة، ولأنني جربت مدارس بيروت والنبطية، لم تعجبني الحال التي كانت عليها عربصاليم ومدرستها، وأولى معاركي مع الأهالي كانت معركة النظافة والتفتيش اليومي، لهذا اصطدمت معهم. بعد فترة ألفني الأولاد ثم ذووهم، ومع أن مبدأ الضرب كان معمولاً به، ألغيته، ما زاد تعلق التلامذة بي، وأحدثتُ نقلة نوعية في العلاقة والتربية وفي موضوع النظافة، من هنا أرى أن ما حققه أبناء الجنوب هو بجهدهم الخاص ولا فضل للدولة على الإطلاق في تبديل أحوالهم ونمط حياتهم».
مطلع السبعينيات، أسست السيدة «أم ناصر» أول جمعية أهلية في عربصاليم تحت اسم «جمعية المرأة العاملة». وبسبب ما كانت تتعرض له المنطقة من اعتداءات إسرائيلية، «أسسنا مع الطبيب الشهيد حكمت الأمين مستوصفاً، وساعدنا في إقامة دورات تدريبية للصبايا على الإسعافات الأولية. وبعدما انضم إلينا الطبيبان أحمد ذيب وأحمد ظاهر جعلنا مقره هنا في بيتنا، وأرسلنا فتاتين إلى الجزائر تخصصتا في التمريض، كما حصلنا على منحة ساعدتنا لنرسل آمنة فرحات لتتخصص طبيبة في الاتحاد السوفياتي، وعقدنا اجتماعات للتوعية ساهمت في خروج نساء البلدة إلى الحياة الاجتماعية، وحققنا نوعاً مختلفاً لدور المرأة في الحياة العامة الذي كان يقتصر على التفرغ لبيتها فقط».
بين النبطية وما كانت تتعرض له من اعتداءات إسرائيلية وتوقف مدارسها، كما جباع «البديلة» التي تعرضت هي الأخرى للقصف، كان على زينب مقلد أن تتنقل يومياً على طرقات محفوفة بالمخاطر لا تسلم من القصف، وكانت تضطر في كثير من الأحيان إلى العودة مشياً على الأقدام من جباع إلى عربصاليم، بمسافة لا تقل عن 7 كيلومترات. هذا الأمر يطال الأولاد الذين صاروا في الجامعات وعليهم تحمّل مشقات مماثلة. بين القلق عليهم، وما كانت تتعرض له عربصاليم، ومهام زوجها المدير لمدرسة البلدة التي نالها من نالها من العدوان، وإبعاده زمن الاحتلال إلى بيروت ثم اضطراره لاحقاً إلى نقل صفوفها إلى بيت العائلة، «كانت حياتنا صعبة، لكن إرادة الحياة أقوى. نحاول أن نفعل ما يعيننا على الاستمرار والصمود. وبسب هذا كله، وانحلال البلدية وتخلي الدولة عن دورها، باتت النفايات المشكلة الأكبر في عربصاليم. عقدت أول اجتماع لعدد من نساء البلدة، تداولنا في الأمر وعرضنا مشكلتنا على محافظ النبطية؛ ولأن الحل المؤقت لم يجدِ، كان الرأي أن نبدأ في تطبيق فكرة فرز النفايات الصلبة انطلاقاً من البيت، ثم الأحياء، فكان عملاً رائداً ومميزاً مع أنه كان غير مألوف. وبعد عام 1995، قمنا بجهد استثنائي مدة ثلاث سنوات حتى تمكنا في عام 1998 من الحصول على ترخيص تحت اسم جمعية «نداء الأرض».
قبل تقاعدها في عام 2000، ساهمت في تعزيز المكتبة العامة في ثانوية النبطية للبنات، وأطلقت حملة للمطالعة «بسبب القصور في اللغة العربية، وقد شهد وفد من وزارة التربية زار المكتبة أن ثانويتنا هي أول مدرسة رسمية تسجّل منظماً للمكتبة، برغم عدم تخصصي في الأمر».
تنشر زينب مقلد حالياً مقالات في السياسة والبيئة في عدد من الصحف المحلية، وتدأب على كتابة مذكراتها. تعطي الكثير من الوقت لجمعيتها البيئية التي صار لها مركز مميز في عربصاليم، ومستودع لفرز النفايات قبل تسويقها والاستفادة من ثمنها في تطوير فعل الجمعية، فضلاً عن المشاركة في الاجتماعات واللقاءات، وتعطي وقتاً آخر لأحفادها، وأولادها.
أما آخر مهامها فهي الدعوة إلى رفض المساعدات الألمانية للمتضررين جنوباً عبر مجلس الإنماء والإعمار «لأنها مساعدات من الدولة التي تنفذ سياسة غير متوازنة بحق الجنوبيين، كيف هذا والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل تعطي صك البراءة والاعتراف بالذنب أمام العدو الذي ارتكب المجازر بعد تدمير منهجي طال القرى وبيوت الآمنين؟».


تحية
لولا أمي

تعيد أم ناصر الفضل في تعليمها إلى والدتها الحاجة خديجة فرحات، «كانت من أولى السيدات اللواتي فكرن بأهمية التعليم، ما دفعنا إلى الانتقال من قريتنا جرجوع إلى بيروت، لأن العلم لم يكن متوافراً في الجنوب. أمي كانت سيدة مميزة، متعلمة وقارئة كل تاريخ العرب، من العقد الفريد إلى تاريخ ابن الأثير فالقرآن الكريم. تعرف كل حكاياته، وقصَّتها علينا نحن أولادها، 4 صبيان و3 بنات.
كنت أقارن نفسي بالفتيات أقاربي في جرجوع، لم يتعلم أحد منهم رغم أن أوضاعهم المادية كانت أفضل من أوضاع والدي بكثير، حيث كان يعمل سائقاً في شركة الترامواي. أذكر يوم حصلت على شهادة السرتفيكا قال والدي لأمي: «يكفي زينب أنها نالت السرتفيكا، فلتقعد بالبيت ويمكن أن تتعلم الخياطة». رحت أبكي، فهمست والدتي في أذني: «أنا سأقنعه وستبقين في المدرسة».