نقولا ناصيفانتهت القمة العربية في دمشق من غير أن يُعطى لبنان، المقاطع لها، إلا أسطراً قليلة تؤكد دعم المبادرة العربية وتعيد تفويض الأمين العام للجامعة عمرو موسى التحرّك لدى الأفرقاء اللبنانيين لتحقيق توافقهم على تسوية داخلية حدّدت المبادرة إطارها. بيد أن قمة دمشق لم تخض في العلاقات اللبنانية ـ السورية ولم تطرح آلية مناقشتها ـ وفي أبسط الأحوال رعايتها ـ على نحو ما طالبت به حكومة الرئيس فؤاد السنيورة. تجاهلت هذا المطلب واختصرت الأزمة اللبنانية بخلاف بين الموالاة والمعارضة لا يُسوّى إلا بتوافق الفريقين. في حصيلة الأمر، بدا أن إعلان دمشق والمقررات الختامية لا تعدو كونها صدى لخطاب الرئيس السوري بشار الأسد في افتتاح القمة على أرض بلاده السبت الفائت، وتحديداً في الشأن اللبناني.
ناقض الإعلان والمقررات تشخيص الأزمة كما قدّمه وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل من الرياض يوم السبت. كذلك انتهت القمة بغير ما حضّها عليه الوزير السعودي، وهو الخروج بحل للأزمة اللبنانية انطلاقاً من وضع المبادرة العربية موضع التنفيذ، والتعاون الإيجابي لدمشق حيال ذلك. وتبيّن مجدّداً مقدار الشرخ القائم بين المملكة وسوريا في نظرة كل منهما إلى طريقة معالجة الأزمة اللبنانية. وعوض أن تنتهي قمة دمشق بموقف وسط يراعي وجهتي النظر المتعارضتين، توطئة لجهود لاحقة تعدّ للمصالحة بين السعودية وسوريا من غير الخروج على روحية المبادرة العربية، خلص إعلان دمشق والمقررات إلى تكريس الخلاف والتباعد. كانت المملكة خارج القمة، فلم تقطف تأثيرها فيها.
وخلافاً لخطاب الرئيس السنيورة مساء الجمعة، إذ قطع الخيوط الرفيعة من التفاهم مع سوريا عندما حصر بها كل اتهامات العرقلة، لم يخلُ كلام الفيصل من غزل لسوريا، إذ تحدّث عن دورها المهم في المنطقة، رافضاً عزلها، ومشجعاً إياها على المساعدة في حل الأزمة اللبنانية. لم تُدنْ المملكة ـ وهي تقاطع قمة دمشق غضباً واحتجاجاً ـ سوريا صراحة. بدوره الأسد تخلّى عن حدّة طبعت كثيراً من خطبه في السنتين المنصرمتين ـ وهي غير حدّة مألوفة لدى والده الرئيس الراحل حافظ الأسد ـ وقال بتأييد المبادرة العربية ومدّ اليد إلى الآخرين.
لكن خلاصة قمة دمشق تشير بدورها إلى ملاحظات أبرزها:
1 ـ رغم ما قيل عن التطرّق إلى الأزمة اللبنانية، وكذلك العلاقات اللبنانية ـ السورية، في الجلستين المغلقتين للقمة مساء السبت وقبل ظهر الأحد، فالواضح أن التمثيل المتدنّي للسعودية ومصر، والتغيّب الكامل للبنان، حرم الأخير دفاعاً عن قضيته واستنفاد مناقشتها بجدية. لم تحضر حقاً الدولتان الأكثر تعاطفاً مع الحكومة اللبنانية وفريق الغالبية النيابية، فلم تواجه الحجة المقابلة والتبرير السوري لاستمرار الأزمة اللبنانية. وأفقد ذلك الخطاب الذي كان قد توجّه به السنيورة مساء الجمعة إلى الزعماء العرب الأهمية والشجاعة اللتين رمى إليهما، وهو تحديد صلب المشكلة وتوجيهها إلى العلاقات اللبنانية ـ السورية، لا إلى مقاربة الأزمة اللبنانية على أساس أنها خلاف بين أفرقاء محليين يعوزه تشجيع عربي كي يستعجل التوصل إلى التسوية ووضعها موضع التنفيذ.
2 ـ لم يعنِ إعلان دمشق ومقررات القمة بتمسّكهما بالمبادرة العربية والمضي في تنفيذها من خلال دعم جهود إضافية لموسى إلا بديلاً خجولاً من الجهر بفشل الوساطة العربية، وتفادياً لنعيها. وقد يكون التعارض الحاد بين ما قاله الرئيس السوري والوزير السعودي أوضح معبّر عن إخفاق المبادرة التي لم يكن لها أن تشقّ طريقها إلى النور في 5 كانون الثاني الفائت في القاهرة لولا موافقة الرياض ودمشق عليها. إلا أن كلّاً من الأسد وسعود الفيصل فسّر المبادرة مجدّداً على طريقته وأخضعها لوجهة نظره. وبينما قال الرئيس السوري إن التوافق وحده يحل الأزمة اللبنانية، في إشارة إلى نأيه ببلاده عن جوهر النزاع القائم في لبنان، ركّز الوزير السعودي على تأثير التدخل الخارجي في الأزمة اللبنانية. وما قاله السنيورة علناً في سوريا عبر توجيهه اتهامات مباشرة إليها بالعرقلة، غمز الفيصل منه غمزاً فقط، ودون تسمية، عندما ربط بين عرقلة الحل في لبنان والتصعيد في الملفين العراقي والفلسطيني. مع أنه وازن في توجيه اتهامات العرقلة بين الخارج والمعارضة اللبنانية. وهكذا انتهى ما دار في دمشق وما دار خارجها إلى التلاقي على الخلاف: لبنان والمملكة يتمسّكان بالمبادرة، وكذلك سوريا طبقاً لتفسير مختلف. وبذلك تصبح هذه مشجباً تعلّق عليه الموالاة والمعارضة غسيلهما اللبناني الوسخ.
3 ـ في غياب الحوار المباشر بين الرياض ودمشق على الملف اللبناني، وتفاهمهما على حدود نفوذ كل منهما في الرقعة اللبنانية، سيكون من المتعذّر للغاية وضع يد الجامعة العربية على ملف العلاقات اللبنانية ـ السورية. وفي واقع الأمر، لم يُتح مرة للجامعة العربية النظر في العلاقات اللبنانية ـ السورية إلا في ظلّ تفاهم الرياض ودمشق على هذا المخرج، كي لا يبدو أنهما تتقاسمان علناً النفوذ والتأثير السياسي في هذا البلد، ولإبراز الحرص على جعل أي تفاهم لبناني ــــ سوري تحت المظلة العربية. بل لم يسبق للسعودية وسوريا أن دخلتا في مواجهة مكشوفة بينهما في لبنان على نحو ما هو جار الآن. في الغالب، توسّط الملك خالد بين سوريا ومصر وسوريا والفلسطينيين على أرض لبنان عام 1976، وبين سوريا والمسيحيين اللبنانيين عامي 1978 و1981، وتوسّط الملك فهد بين سوريا وحكم الرئيس أمين الجميل عامي 1983 و1984، ثم في حقبة الفراغ الرئاسي عام 1988. وفي كلّ من هذه المرات، لم تكن المملكة طرفاً، ولم تشأ أن تتخطَّى دور الوسيط. وفي كلّ من المرات تلك كانت الرياض ترجّح كفة دمشق في فرض وجهة نظرها. ولعلّ المثال الأقرب إلى ذلك اتفاق الطائف الذي أطلق يد سوريا في لبنان. وقد يكون مغزى هذه الإشارة أن الوزير السعودي تذكّر في مؤتمره الصحافي يوم السبت أن السعودية عضو في اللجنة الثلاثية العربية العليا التي رعت إنهاء الحرب في لبنان ووضع اتفاق الطائف، واستعاد دور المملكة فيها الذي يرتّب عليها، بسبب عضويتها هذه، الاهتمام بالوضع اللبناني. علماً بأن آخر اجتماع للجنة الثلاثية العربية العليا تلك كان عام 1989.