جان عزيزلم يكن الصمت والهدوء السعوديان في قمة دمشق إلاَّ ظاهريين، فيما التشدد والتصلّب كانا سمتي العلاقات السعودية ــ السورية، في القمة، كما قبلها، وكما ينتظر لما بعدها، وخصوصاً في الملف اللبناني. صحيح أن الرياض لم تفتح النقاش بشأن الأزمة الرئاسية داخل القمة، باستثناء، كلام وزير خارجيتها حول الموضوع، من على أرضها، وعلى طريقة الحوار عن بعد. وصحيح أيضاً، كما أكدت مصادر متطابقة، أن الرئيس السوري سعى في الجلسة المغلقة مساء السبت، إلى فتح الموضوع، محرّضاً على تلقّي الردود حول كلمته الافتتاحية، فظل الصمت الجواب الوحيد. غير أن السفير السعودي لدى الجامعة ورئيس وفد بلاده إلى القمة، أحمد القطان، لم يضبط نفسه حين سئل في إحدى الحلقات الدردشية على هامش الجلسات، عن جوهر المأزق اللبناني، فسأل جازماً: في النهاية، ما هي الغاية من الإصرار على الثلث المعطّل في أي حكومة؟ قبل أن يجيب بالجزم نفسه: الهدف منه أمران، تعطيل المحكمة الدولية وعدم نزع سلاح حزب الله، هذه هي القضية.
وكأن المعنيين بالأمر في سوريا لم يكونوا غافلين عن هذا الموقف السعودي البالغ الدلالة، وخصوصاً أن التدقيق في مضمونه يكشف مرامي أساسية: الكلام عن المحكمة يعني استهداف النظام في دمشق، والكلام عن نزع سلاح حزب الله يعني استهداف دور طهران، تمهيداً لاستهداف نظامها نفسه.
هكذا تبدو الصورة لدى طرفي الصراع، لا مجّرد حذر وشك في النيات المتبادلة، بل اقتناع راسخ بأن اللعبة باتت نزالاً على طريقة «الوسترن» وإدارة الظهر للآخر، التي بدأت قبل مدة، ليست غير بدء العدّ العكسي للحظة الاستدارة ومعرفة من سيقضي على الآخر أولاً.
والمشهد القاتل، يجد في دمشق كل أجزائه التركيبية، وأبرزها كلام كثير عن دخول الحركة الوهابية بالمال المغدق والمغرق، على الساحتين الأصوليتين في كل من دمشق وبيروت، وأحاديث عن مئات الملايين تصرف لتأسيس مجموعات أمنية وإرهابية وتخريبية، تماماً على طريقة «الحرب القذرة» التي وصفها ووثّقها دايفيد روز على الساحة الفلسطينية الداخلية.
وتبلغ تفاصيل المشهد نفسه حداً «رفيع المستوى»، حين يصير الكلام عن «استيعاب» لمسؤولين كبار في أكثر من مؤسسة وإطار عربيين، كما عن تحريض مدروس على النغمة المذهبية والعرقية، فتكشف معلومات مثلاً عن ذلك، مفاده أن العلاقات الثنائية والشخصية داخل مجلس وزراء الخارجية العرب لم تبدأ بعد من حادثة معبّرة شهدها اجتماع المجلس المذكور في القاهرة في 27 شباط الماضي، حين ارتفعت فجأة لهجة مسؤول عربي بارز، منتقداً أحد السياسيين اللبنانيين قائلاً: كيف له أن يعلّمنا معاني اللغة العربية ودلالاتها، وهو يتحدث اللغة الفارسية، أكثر مما يتحدث بلغتنا. وتضيف المعلومات نفسها، أن تلك الملاحظة لم تمر من دون أكثر من رد مستنكر ومدين. على ضوء ذلك، يبدو التحرك السوري داخل القمة وبعدها، أكثر وضوحاً وفهماً، وتبدو محاور استعداداته الوقائية والدفاعية، محاولة للجمع بين التصدي والاحتواء. التصدي أولاً عبر رفع سقف الخطاب فلسطينياً، ما يمثّل «حصانة قومية» يصعب على أي كان إطلاق النار عليها، والتصدي ثانياً عن طريق توجيه الرسائل المتعددة، عبر القناة الليبية. فشبك الأيدي بين الأسد والقذافي، والدخول معاً إلى جلسة الافتتاح وإعطاء الكلمة الأولى للزعيم الليبي الثائر الدائم... كل ذلك بدا نوعاً من الغمز من قناة الرياض، على خلفية الإشكال الشهير بين القذافي والأمير عبد الله في حينه في قمة شرم الشيخ، كما بدا نوعاً من الرسالة الإيجابية نحو واشنطن، على خلفية التحسّن الكبير في العلاقات بينها وبين طرابلس الغرب، الذي غالباً ما أطلق عليه توصيف «النموذج الليبي»، مقارنة بالنموذج العراقي الشهير.
أما مساعي الاحتواء، فتمثّلت في نجاح دمشق في نقل القمة المقبلة إلى قطر بعد حديث كان قد تردد حول عودة القمة إلى مقر الجامعة، وهذه الخطوة ليست معزولة عن متانة العلاقات بين الدوحة ودمشق وطهران من جهة، وبينها وبين واشنطن من جهة أخرى، من دون نسيان الحركة القطرية العمانية على الخط السعودي في الآونة الأخيرة. والمساعي نفسها لم تكن بعيدة عن تعزيز علاقة سوريا بدول المغرب العربي، عبر البوابة الليبية وسواها، وهو ما انعكس فوراً في الوساطة الجزائرية لدى القاهرة، في ظل كلام عن فهم أكبر من جانب هذه الدول للحساسيات السورية حيال الحركات الأصولية. فإذا كانت الرياض مهجوسة بتماسها النزاعي مع طهران ومع الجماعات الشيعية في السعودية والدول الخليجية الأخرى، فإن تماس دول المغرب، كما مصر نفسها، هو مع الأصوليات السنّية نفسها داخلها، بما يمكن أن تمثّل مصلحة مشتركة، أو فهماً وتفهماً مشتركين على الأقل، مع الهواجس السورية.
«إعلان دمشق» الأخير، فيه بند مكتوب بالصمت والكلام المسكوت عنه، وهو إعلان الشرق الأوسط الكبير على قاعدة اصطفافات جديدة، دفنت قمة أنشاص وألغت لاءات الخرطوم، ولم تبق غير نعم واحدة كبيرة، لصراع البقاء بين جماعات ما تحت الدول، أو ما قبلها.