البداوي ــ عبد الكافي الصمد
•«هل يرضى من دمّر المخيّم بالعيش مثلنا في التشرّد؟»

ينتظر الفلسطينيّون من لاجئي مخيم نهر البارد تحقيق الوعود التي أطلقت إثر المعارك التي دارت بين الجيش ومجموعة «فتح الإسلام»، والتي دفعتهم في أيار من العام الماضي إلى ترك منازلهم. وعود يبدو أنّها ذهبت أدراج الرياح

«هل نحن بشر في نظر المسؤولين في الحكومة والجيش والأونروا والفصائل الفلسطينية حتى ينظروا في حالتنا ويعرفوا إذا كنّا نأكل أم نجوع، ونتدفأ أم نموت من البرد؟»، تسأل الحاجة أم علاء، المرأة الفلسطينية المهجّرة من مخيّم نهر البارد والمقيمة مع عائلتها المكوّنة من 14 فرداً (10 بنات و4 صبيان فضلاً عن زوجها) في غرفة واحدة في مدرسة كوكب التابعة للأونروا في مخيّم البداوي، قبل أن تضيف: «لقد دمّروا المخيّم وشردونا».
لا تختلف قصّة أم علاء عن قصص آلاف العائلات التي لا تزال تسكن في مدارس مخيّم البدّاوي الصغير والذي يضيق بسكانه أصلًا، وهي في معظمها عائلات كانت تقطن في الجزء القديم من مخيّم نهر البارد، الذي لا يزال الجيش اللبناني يمنع عودة النّازحين إليه، كما يمنع دخول المدنيين من هيئات أهلية وصحافيين، مكتفياً بعودة نحو1200 عائلة من أصل 5500 عائلة إلى الجزء الجديد من المخيّم فقط.
ومع أنّ أوضاع هؤلاء النّازحين بقيت مأسوية، فإنّ موجة البرد الأخيرة فاقمتها، خصوصاً أنّ المساعدات التي جاءتهم عند بداية الأزمة تقلصت إلى حدود علبة الإعاشة التي يحصلون عليها شهرياً من الأونروا، إلى أن تبرعت إحدى الجمعيات الخيرية بتقديم مدافئ تعمل على الغاز، فوضعت في كلّ غرفة واحدة منها فقط، علماً أنّ بعض الغرف يسكن فيها أكثر من عائلة، ويصل عدد سكّان بعضها إلى نحو 40 شخصاً!
إلا أنّ المشكلة برزت لاحقاً بشكل أكبر. فقارورة الغاز التي فرغت «لا نملك مالاً حتى نشتري غيرها» تقول أم خالد التي تقيم وعائلتها المكوّنة من 12 فرداً مع عائلة أخرى في إحدى غرف المدرسة، فيما يوضح جمال الجندي، الفتى الذي لا يتجاوز الـ 15 عاماً: «عائلتنا تتألف من 13 فرداً، لا أحد منّا يعمل فكيف يمكن أن نشتري قارورة غاز بـ 23 ألف ليرة، ولا تكفي إلا لـ3 أو 4 أيّام؟»، قبل أن يتوجّه إلينا سائلاً: «هل يرضى السنيورة الذي أمر بتدمير المخيّم، وهل يرضى الجيش اللبناني العيش مثلنا؟».
المشهد داخل الغرف فاجع. أطفال ومسنّون ومرضى يلتحفون أغطية رقيقة طوال ساعات النّهار تقريباً، علّها تمدّهم ببعض الدفء، أمّا الفرش التي ينامون عليها فلا تزيد سماكتها على 5 سنتيمترات من الإسفنج الصناعي في أحسن الأحوال، ويملك كل من الأشخاص اللاجئين في البداوي حصة هي غطاء واحد وفرشة واحدة، عدا أنّ الغرفة نفسها التي يقطنون فيها تستخدم مطابخ، ولا حاجة للإشارة إلى انعدام وجود برّادات وغسّالات، أو حتى حمامات، فعلى من يريد أن يستحمّ أو أن يقضي حاجته الذهاب إلى بيت قريب له خارج المدرسة، أو النّزول إلى الحمام المشترك في باحتها، ولو كان ذلك ليلاً، حيث تقوم النّساء بغسل الأواني بالمياه الباردة في الهواء الطلق، فالحصول على المياه الساخنة ترف غير متوافر!
وفي موازاة ذلك، تعيش قرابة 423 عائلة نازحة في كاراجات خارج المخيّم، بعدما ضاقت مدارسه وبيوته بالنّازحين، ومع أنّ أوضاع هؤلاء من النواحي الصحّية والبيئية والنفسية أفضل قليلاً من نظرائهم المقيمين في المدارس، يواجهون مشكلة ضرورة تأمين إيجارات لهذه الكاراجات، تتراوح بين مئة ألف ليرة ومئتي دولار.
أمّا بالنسبة لكيفية مواجهتهم البرد، فتقول ليلى أبو أسعد، إحدى المقيمات: «نلتحف الأغطية، خصوصاً زوجي المريض، فنحن لا نملك خياراً آخر بعدما دمّر الجيش بيتنا كله في الجزء القديم من المخيّم».
هذا الوضع المأسوي للنّازحين زادته تبعات الإجراءات التي لا يزال الجيش يتخذها عند المداخل الأربعة لمخيّم نهر البارد.
فالعائدون إليه يعانون الانتظار لساعات طويلة من التحقيق والتفتيش، وسط حديث عن تشكيلات جديدة طرأت في صفوف الجيش الموجود في المخيّم ومحيطه، وأنّ هذا الأمر أسهم في رفع وتيرة الإجراءات لجهة، والتذمّر والشكوى منها لجهة ثانية، مما دفع أحد النّازحين إلى القول: «هل يظنّ الجيش أنّ مسلحي «فتح الإسلام» لا يزالون في الداخل؟».
وإذا كان النّازحون ينظرون إلى هذه التبديلات على أنّها ذات خلفية سياسية لا تزال تحمّلهم جميعاً تبعات أحداث المخيّم، يلفتون إلى ساعات الانتظار الطويلة التي يقضونها في أحد مراكز الجيش في القبة للحصول على تصريح لهم بالدّخول إلى الجزء القديم من المخيّم، التصريح الذي لا تتجاوز مدّته ربع ساعة، على أن يرافق كلّ داخل إليه عناصر من الجيش، علماً أنّ الحصول على التصريح يستغرق بين عشرة أيّام وشهرين...
هذه المعاناة التي كشفت عن جزء كبير من المأساة الفلسطينية المستمرة منذ عقود، يلقي النّازحون مسؤوليتها على عاتق الحكومة والجيش أولاً، فضلاً عن الفصائل الفلسطينية والأونروا، وإنْ بنسَب متفاوتة. ولا يكتم بعضهم القول إنّ «ما جرى هو حلقة من مشروع، يحاول أصحابه استغلاله لتحقيق مآربهم، ولو على حساب حقّنا في الحياة كبشر».



جوهرةالمخيمات

نهر البارد من أقدم المخيمات الفلسطينية في لبنان، إذ أنشئ في عام 1949، وبعدما كان مخيماً صغيراً لا تزيد مساحته على كليومتر مربع، توسع وازدهرت فيه حركة التجارة نتيجة الأعمال التي كان يرعاها ويمولها فلسطينيون ولبنانيون حتى أصبح سوقاً تجارية رئيسية يرتادها للتبضع أهالي المناطق المجاورة، فأطلق عليه نتيجة ذلك لقب جوهرة المخيمات الفلسطينية».
قبل المعارك التي دارت في المخيم كان يقطنه، وفق إحصاءات الأنروا، نحو 5600 عائلة، مما جعله المخيم الثاني في لبنان من حيث السكان بعد مخيم عين الحلوة في صيدا، وقد اشتهر نهر البارد بوجود ملاجئ عسكرية فيه إضافة إلى ملاجئ مدارس وكالة غوث اللاجئين.