نقولا ناصيف
وجّه التحقيق العسكري والقضائي عن حوادث الأحد 27 كانون الثاني في الشياح ومار مخايل الاهتمام من المبادرة العربية إلى المؤسسة العسكرية، ومن الاتفاق المتعذّر على توزّع الأحجام في حكومة الوحدة الوطنية بين الموالاة والمعارضة إلى مصير التوافق على انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. ترجمة لذلك باتت المهمة الجديدة المحتملة للأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى غير ذات جدوى. لا أفكار جديدة لديه، ولا إجماع عربي على تفسيره للبند الثاني من المبادرة، ولا أحد في طرفي النزاع اللبناني مستعد للتزحزح قيد أنملة عن الحد الأدنى لشروطه.
كل ذلك يساوي بين حظوظ عودة موسى إلى بيروت وصرف النظر عنها. وقد يبدو الاحتمال الثاني أكثر ترجيحاً مع انقضاء الوقت الفاصل بين الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية العرب في القاهرة في 27 كانون الثاني، وموعد زيارة غير مؤكدة قلّت الحماسة لها، ولا يلحّ عليها أحد ممّن يود موسى استطلاع أرائهم. بل في واقع الأمر تستمد عودة موسى ـــــ إذا حصلت ـــــ جدواها وأهميتها مما يستطيع أن يحمله معه إلى اللبنانيين، لا أن يعرف منهم ما كان قد عرفه في زيارته السابقة.
واستناداً إلى جهات حكومية واسعة الاطّلاع، فإن العقبات التي لا تزال تحول دون وضع المبادرة العربية موضع التنفيذ تتصل بمعطيات من بينها:
1 ـــــ لا تزال الهوة عميقة بين الرياض ودمشق لدوافع رئيسية ومبدئية ــــــ وشخصية كذلك ــــــ في نظرة كل منهما إلى علاقته بحل المشكلة اللبنانية. ووفق الجهات الحكومية نفسها، فإن العاهل السعودي الملك عبدالله يقرن تخلّيه عن غضبه على الرئيس السوري بشار الأسد بإقدام الأخير على فك الارتباط بين الفراغ الدستوري اللبناني وتطبيع علاقة بلاده بالمملكة، بحيث يتقدّم أولاً إمرار التسوية في لبنان بانتخاب سليمان رئيساً للجمهورية ومن ثم تأليف حكومة وحدة وطنية أخذاً بمعايير التوازن الداخلي التي رسمتها المبادرة العربية. عندئذ تشق العلاقات الثنائية السعودية ــــــ السورية طريقها إلى التطبيع. على طرف نقيض من وجهة النظر هذه، تتمسك دمشق بأولوية التطبيع الذي يفضي تلقائياً إلى تهاوي الخلافات الناشئة عنه، بما في ذلك الوضع اللبناني. ورغم أن دمشق جارت، في الظاهر، وجهة النظر السعودية في الاجتماع الأول للوزراء العرب في 5 كانون الثاني الفائت، حدّدت علناً موقفها الفعلي من تضارب الأولويتين في اجتماع 27 كانون الثاني، وأعادت الخلاف المتعلق بلبنان إلى مصدره الأول. أبرز ذلك لموسى الجانب الآخر من الحل المستعصي، وهو أن الخلاف السعودي ــــــ السوري لا يقل أهمية عن الخلاف اللبناني ــــــ اللبناني، وكما أنه ليس في وسع أحد فصل شقي النزاع واحدهما عن الآخر، لن يسعه إنجاز التسوية اللبنانية قبل المصالحة السعودية ــــــ السورية.
2 ـــــ رغم أن الأمين العام للجامعة أبلغ إلى الوزراء العرب في القاهرة إصراره على تفويض كامل منهم في خطته لتنفيذ مبادرة الجامعة، ومن ضمن ذلك تفسيره للبند الثاني منها المتعلق بتأليف حكومة الوحدة الوطنية، فاجأته دمشق برفع الغطاء عن الإجماع الذي انتهى به اجتماع 5 كانون الثاني مع إعلان المبادرة العربية. وبحسب الجهات الحكومية، طابقت دمشق في الاجتماع الثاني بين موقفها من التسوية وموقف المعارضة، فأيّدت علناً الحدّين الأقصى والأدنى لما كان موسى قد سمعه من أفرقاء المعارضة في بيروت ما بين 16 و20 كانون الثاني، وهو أحد خيارات ثلاثة: توزيع مقاعد حكومة الوحدة الوطنية وفق التمثيل في مجلس النواب، أو الثلث الزائد واحداً، أو المثالثة التي تساوي بين الموالاة والمعارضة ورئيس الجمهورية، وتحرم كلاً منهم أياً من الأنصبة الثلاثة المتصلة بكيان مجلس الوزراء المنصوص عليها في الدستور (الثلثان والنصف الزائد واحداً والثلث الزائد واحداً).
ووفق ما اطّلعت عليه الجهات الحكومية الواسعة الاطّلاع، تعمّدت دمشق في اجتماع 27 كانون الثاني التصلّب خلافاً لموقفها في اجتماع 5 كانون الثاني، إذ بدت أكثر ميلاً إلى إحاطة موقفها بغموض. لم تقبل بالتفسير الأول لموسى حيال البند الثاني من المبادرة قبل وصوله إلى بيروت (15 + 10 + 5)، ولا بالتفسير الثاني الذي استنبطه بعد أولى جولات حواره مع الشخصيات اللبنانية وقبل انتقاله إلى دمشق (13 + 10 + 7)، ولا تبدو هذه في صدد الموافقة على المعادلة الثالثة التي يحاول موسى تسويقها قبل الخوض فيها في العاصمة اللبنانية لدى عودته إليها، وهي إيجاد حساب وسطي آخر بين ما تقول به الموالاة والمعارضة انطلاقاً من قاعدة يرى، كما تقول الجهات الحكومية، أنها تمثّل فلسفة المبادرة العربية إذ رسمت لكل من طرفي النزاع اللبناني حدّيهما الأقصى والأدنى: حصة الموالاة دون نصاب النصف الزائد واحداً، وحصة المعارضة دون نصاب الثلث الزائد واحداً. الأمر الذي يفترض، ضمناً، إعطاء قوى 14 آذار الامتياز الذي أعطتها إياه انتخابات 2005، وهو ترجيح حصتها في حكومة الوحدة الوطنية. كان موسى يدافع عن هذا الحساب إذ يعطي الموالاة الثلث الزائد واحداً كي يقول إنه لا يستطيع أن يصدّق أن تكون هذه عدو ذاتها، بأن تعمد ــــــ وهي تمثل الغالبية البرلمانية ــــــ إلى إسقاط نفسها بنفسها.
3 ـــــ بعد حوادث الشياح ومار مخايل حوّل التجاذب الناشب بين الموالاة والمعارضة ترشيح قائد الجيش جزءاً من المشكلة السياسية، بعدما كان التوافق على ترشيحه، في الظاهر على الأقل، جزءاً من الحل. ومع أن التقرير العسكري رمى إلى استيعاب محاولة إقحام الجيش في المواجهة السياسية من جهة، وإلى تأكيد قائده تحمّله المسؤولية الناجمة عن خطأ تولّد في ساحة الصدام من غير أن تكون ثمة أوامر من القيادة بإطلاق النار من جهة أخرى. ينبىء التلاعب الجديد بقواعد اللعبة ليس بتجاوز المبادرة العربية فحسب، وإنما أيضاً باستهداف ترشيح سليمان. فمنذ أكثر من شهرين، عندما أعلنت قوى 14 آذار ترشيحه، بدأ الرجل يواجه استنزافاً شخصياً طويلاً لا يفضي إلى حسم خياره جدياً وانتخابه رغم وفرة التأييد المعلن له. ويُنظر إلى هذا الانتخاب على أنه تفصيل سياسي ثانوي تتقدّم عليه معالجة المشكلة الجوهرية، الأدق والأكثر تعقيداً، التي هي أولى حكومات عهده. وبات منذ الأحد الماضي على أبواب مواجهة أخرى هي استنزاف سياسي للمؤسسة العسكرية.