strong>راجانا حميّة
صرخت والدة الشهيد يوسف شقير حين رأت عدسة الكاميرا مصوّبة نحوها، لا تريد لها أن تصوّر ذكريات يوسف وصوره المنثورة في كلّ الزوايا، ولا تريد لها أيضاً أن تذكّرها بأنّ ابنها، الذي كانت توضّب له الحقيبة قبل اليوم «الأسود» ليسافر مع والده، رحل إلى الأبد. بكت، كأنّها فقدت ابنها لتوّها، حينما رأت نسوة «المعارضة الوطنيّة اللبنانيّة» يتقدّمن باتّجاهها لتعزيتها، فلم تستطع أن تردّهن كما ردّت أعين الصحافة، لكنّها لم تتكلّم، بقيت صامتة تنظر إلى الزاوية الأخرى، حيث الوالد مصطفى يروي قصّة يوسف الصغير الذي ذهب إلى الغداء ذات يوم أحد فعاد في كفن. يروي قصّته ويدلّ بإصبعه إلى «هناك»، إلى المكان الذي رآه فيه للمرّة الأخيرة، حين قدم إليه قبل ساعة ونصف ساعة من استشهاده بـ«حصّ» ثوم وطلب من والده أن يأكله لأنّه «منيح للضغط»، وأخذ بعض المال ليأكل ورفاقه وخرج... ولم يعد. سكت الوالد، لم يعد قادراً على متابعة قصّته، فدمعته كانت أقوى منه هو الرجل، وهو ينظر إلى «ابنه» المعلّق على الحائط، يبتسم له. أشاح نظره عنه، قائلاً «الله يخليلكم إخواتكم يا شباب، ابني لم يكن ابن شارع، لو أنّكم رأيتم ثيابه حين استشهد، لم يكن ينقصه شيء... وما كان أزعر، ابني ما كان عم يقاتل، بس راح».
كلّهم «راحوا» وتركوا فقط صوراً معلّقةً على الجدران وأسئلة عالقة في صدور الأمّهات والزوجات اللواتي لم يستوعبن بعد الرحيل، وغصّة في قلوب نساء «المعارضة اللبنانيّة» اللواتي احترن بالتعزية في حضرة الحزن، فلم يكن بأيديهنّ سوى التوجّه إلى القضاء ومطالبته باتّخاذ قرارٍ جريء وعادل والكشف عن قاتلي الشهداء السبعة أيّاً تكن هويّتهم.
لكن هل تكفي هذه المطالبة لتمسح الدمعة من عينيّ لينا ناصر الدين، والدة محمود حايك؟ لينا التي لا تعرف ماذا ستقول لطفلها في عيده السادس عشر الذي انقضى أمس من دون أن يطفئ الشموع؟ بوسعها فقط أن تبكي، وتسأل عن ابنها «كيف قُتل؟ وكيف أغمض عينيه؟ ومن قتله؟ ولماذا؟». كلّهنّ يسألن السؤال نفسه، ولا من يجيب، حتّى الصور المعلّقة باتت عبئاً على الأحياء الباقين، صورهم التي «تحنّط» ذكرياتهم وتفاصيلهم الجميلة، فابتسامة الشهيد أحمد علي العجوز في صورته الأخيرة دفعت الوالد إلى ترك المنزل و«التسكّع» في الزوايا التي كان الصغير يرتادها، إلى أن وصل به الأمر إلى «المداومة» في مطعم «KFC» بضعة أيّام حيث كان يعمل أحمد للبحث عنه أو التحدّث مع رفاقه، أمّا والدته ليلى، فإلى الآن لم تفعل ما فعله الوالد، تصرخ في مكانها وتحدّث الصور والثياب، ولن تفعل أكثر من هذا، ولن تزوره حيث هو، أقلّه في الأيّام القليلة المقبلة، لأنّها منذ خبر استشهاد أحمد وقعت وكسرت قدمها. لا تطلب ليلى، والدة أحمد، شيئاً، لأنّها إن طلبت، فهي تريد «أحمد فقط»، لكن ذلك لا يمنعها من السؤال «ليش اللبناني دائماً دمه رخيص؟ ليش أحمد ليقتل هيك؟».
السؤال نفسه تواجه به والدة أحمد حمزي، الشهيد الأوّل في ذاك «الأحد الأسود»، كلّ من تراه، هي الأخرى تكتفي بالسؤال وتصمت، لا تريد لأحدٍ أن يشاركها في ذكريات أحمد، تحضن صورته كمن يحضن وهماً، وتخبّئ هاتفه في جيبها، وعندما يبادرها أحد بالسؤال عن قصّة ولدها، تحمل هاتفه، وتطلب من أحد الموجودين أن يتّصل بهاتفه «لتشوفوا انّو أحمد كان عارف حاله بدّو يموت، سمعوا الغنّية... يا خييّ قلبي موجوع...». اكتفت الأمّ بكلماتها القليلة وعادت إلى صمتها وحزنها وبكائها ووجه أحمد في الصورة التي لم تفارقها منذ أن جلست، وتركت لشقيقاته اللواتي تركن أحمد، يصبّنّ جام غضبهنّ على «نائلة معوّض ومحمّد الحجّار، فهؤلاء لا يعرفون أنّ أحمد شاب فقير، يعمل في الليل من أجل إطعامنا، ويتعلّم في النهار، لأنّهم لم يختبروا الفقر، ولن يعرفوا كيف سنكون
بعده».
هناك، على مقربة من منزل حمزي، منزل آخر وصورة لشهيدٍ آخر، صورة كبيرة لم يعلّقها أهله، لكن رفاقه «من عين الرمّانة»، تشير زوجته، فهي تعرف أنّ «الأحد لم يكن بين الشيّاح وعين الرمّانة، كان مخطّطاً أكبر من هذا»، وتعرف أيضاً «أنّ جهاد لم يكن هناك ليقاتل، بل كان يسعف أحمد، وقتلوه». فهنا أيضاً، الوضع مثله في منزل حمزي، «فقراء» فقدوا معيلهم، ومرضى أيضاً، فابن الشهيد محمّد الذي لم يتجاوز الثلاث سنوات يعاني من فشلٍ كلوي والوالد مريض لا يقوى على العمل، فما من أحدٍ «يعوّض عن جهاد». كذلك ما من أحدٍ يعوّض عن مصطفى أمهز، المسعف الآخر الذي استشهد وهو ينقذ جهاد والرفاق الذين سقطوا خلال أحداث الأحد. ويبقى أحمد منصور، الشهيد الذي سقط أمام باب محلّه، مغمضاً عينيه في غياب الوالدة التي لا تزال تتساءل عن الولد الذي ذهب ولم يعد.