إبراهيم الأمين
قد يكون من المفيد بعض المقارنات حتى يتبيّن المرء حقيقة الوجهة التي تسلكها القوى القابضة على القرار السياسي في البلاد، لأن ما حصل خلال الأيام القليلة الماضية كان كافياً لتقديم صورة عما آلت إليه الأمور في بلد أقفلت أبواب التسوية فيه إقفالاً يهدّد، أكثر من أيّ وقت مضى، بمستوى جدي من الفوضى التي تقود حتماً إلى ما يُعرف بـ«الحرب الأهلية المتنقّلة».
بين المؤتمر الصحافي للنائب سعد الحريري وتصريحات متكررة لأميرَي الحرب وليد جنبلاط وسمير جعجع، وبيان قوى 14 آذار، وبين الندوة التلفزيونية المشتركة للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ورئيس التيار الوطني الحر العماد ميشال عون، فارق يعكس بالضبط الخلفية والوجهة المفترضة لكل من الفريقين: إنه تماماً الفرق الذي شاهده اللبنانيون قبل عامين بالتحديد، حين شنّ مناصرون لتيار المستقبل والقوى السلفية الحليفة له «غزوة الأشرفية» الشهيرة، وما حصل في اليوم التالي من توقيع للتفاهم بين التيار الوطني وحزب الله.
كما هو الفرق تماماً بين لعبة التحريض والتهويل التي قادها أبطال الحرب في 14 آذار يوم الأحد المشؤوم ومشهد الأحد التالي في الاجتماع الأهلي الذي حصل في القداس الذي دعا إليه التيار الوطني الحر في كنيسة مار مخايل بحضور مسؤولين من حزب الله ومواطنين من الضاحية الجنوبية لبيروت.
إنه الفرق عينه بين مسامحة مستمرة من جانب سليمان فرنجية لقتلة عائلته إذا كان في ذلك ما يعزّز استقرار البلاد، وطموح القاتل سمير جعجع إلى إطاحة الناجين من آل فرنجية بمن فيهم عضو 14 آذار سمير فرنجية الذي لا يعجب جعجع لأنه «متفلسف»، ولأنه لا يريد أن يزور معراب. وهو الفرق تماماً بين أن يضغط نبيه بري على أنصاره وعلى حلفائه في لبنان وخارجه، رافضاً إقفال الأبواب أمام حوار يمكن أن يُنتج تسوية ولو بالحدّ الأدنى، وبين شاب متهوّر ظهر أمس على اللبنانيين راغباً في تجربة لعبة النار، ومذكّراً اللبنانيين بمقولة الموت الشهيرة لبيار الجميل الأول الذي قال ذات يوم: «فلتقع الحرب ولينتصر الأقوى»، وإذا بهذا الشاب لم يتّعظ بدروس حليفه شيخ ما بقي من كتائب إلا هذه الأمثولة الدموية، فهدد أمس قائلاً: «إذا كانت المواجهة قدرنا فنحن لها».
ومرة جديدة، فإن خطاب التعبئة لفريق 14 آذار بات يتجاوز الوقائع الميدانية. وإذا كان سعد الحريري يريد اختبار شعبيته بعد الذي مضى، فهو ليس مضطراً لأن يخيف الناس مهدّداً بحرب أهلية، وناسفاً كل أنواع جسور التواصل لضمان أعلى درجة من الشحن كي يحصل على أفضل النتائج في المشاركة الشعبية في مهرجان الخميس. ذلك أن أحداً لا يتشكك في أن زعامته هي الأقوى بين سنّة لبنان ونفوذه الجدي في أوساط أخرى، لكن الجميع يتشكك في أنه يحمل مشروعاً تصالحياً في ظل النزعة الانتقامية والثأرية التي تسيطر على عقله الشخصي والسياسي، ولا ينفع كل التوتر السائد في إعلامه على اختلافه. ولا هو مضطر لهذا القدر من الكلام المفتوح على سقوف تعلو قامته بكثير وتعلو قامة من يقف خلفه من مجانين المنطقة الذين أبهجتهم وخرّبت ما بقي من عقولهم زيارة جورج بوش الحائز شهادة مصدّقة بأنه المجنون الأول في العالم.
ولكن هل هذه طريقة الترحيب بعمرو موسى؟ وهل هذا هو الأسلوب الذي يفتح له الأبواب لكي يخرج بشيء من التسوية، وهو الفاقد أصلاً لدعم القوى الدولية التي في يدها الأمر قبل أن يكون محدود القدرة على إقناع المعارضة في لبنان وسوريا بمشروعه للتسوية؟
وإذا كان الملك السعودي عبد الله بن عبد العزيز لا يريد مصالحة بشار الأسد ولا معمر القذافي ولا أمير قطر ولا سلطان عمان ولا قيادة إيران، ولا يريد للقمة العربية أن تنعقد في دمشق وإذا عقدت فهو لا يريد فيها تمثيلاً رفيعاً، فهل يجب أن يدفع لبنان ثمن كل هذا التوتر السعودي؟
وهل قيام جنبلاط بدور الشتّام المدفوع الأجر لمصلحة السعودية، فيرفع سقف حملته على سوريا ويطالب أمير قطر بتغيير موقفه ثم يحمل على كل من لا يعجبه فيدخله لعبة القتل كما فعل مع «الأخبار»، متهماً إياها بالتحضير لاغتيال ضابط في الجيش لمجرد أنها سألت عن مسؤوليته في إدارة الوحدات العسكرية التي تورطت في الاضطرابات يوم الأحد المشؤوم ـــــ هل هذه السياسة تمنح جنبلاط حصانة أخلاقية أو تمده بعون على ضائقته الشعبية المتزايدة يوماً بعد يوم؟
وهل تفيده في أن ينام هانئاً وهو الذي يرفع صوته على نفسه إذا بقي وحيداً في الغرفة، ولا ينام لأن المتنبي الجديد في البيت الابيض قال له إن بشار الأسد يريد أن يقتلك، وإنني أنا من يوفر الحماية لك؟
هل هذا يحتاج إلى التحريض الهستيري الحاصل على الآخرين؟
ثم هل اللبنانيون هم الذين يتحمّلون مسؤولية الأمراض النفسية التي يعانيها سمير جعجع منذ بات مجرماً محلّفاً؟
وهل هناك غير وليد جنبلاط والرئيس الشهيد رفيق الحريري وحشود الواقفين حوله من نواب 14 آذار ووزرائها من كان وراء تغطية قرار سجنه؟
وهل على الجمهور أن يتحمّل سماجته لمجرد أن بيار الضاهر قرّر تقليص حضوره الإعلامي الذي بات مثل عقاب فُرض على الناس أخذه قبل النوم مرّة كل يوم؟
وما دخل الناس إذا كان الشارع المسيحي لم يقبله أكثر، وما دخل سائر اللبنانيين إذا كان سعد الحريري قد فشل في رفع نسبة القبول به عند المسلمين إلى أكثر من 2 في المئة؟
أمس، بدا لبنان مجدداً أمام خيارين: خيار يريد للبلاد أن تكون جزءاً من لعبة الموت الأميركية المتنقلة، وخيار الإفساح أمام هدنة قد تعيش سنوات، غير أنها تتيح على الأقل لمن يرغب أن يجرب مرة جديدة مشروع الحل. ولكن يبدو أن ما نقله إعلاميون أجانب عن قادة الأكثرية من أنهم ينتظرون أن يوقظهم المرافقون بين لحظة وأخرى على خبر بدء الهجوم الأميركي على إيران والحرب الإسرائيلية على سوريا، هذه الآمال تسيطر على عقول هؤلاء «القادة» وتجعلهم يطلقون الصراخ تلو الصراخ، وحتى لو صدقت أحلامهم، فهل يستفيد هؤلاء شيئاً إذا وقعت الحرب أو الحربان؟ أم أن البيت الأبيض سوف يجمّد هذه المرة أموال إميل رحمة؟