أنسي الحاج
هدوء

لعلّ أهمّ ما في لقاء نصر الله ـــــ عون على الشاشة هو الهدوء. شكل الكلام هو في أهميّة مضمونه. النبرة أخْت المحتوى. قلْ سلاماً وأنت تُهَوْبر تُشعلْ حرباً.
قبل ذلك بليلة جمعت الشاشة الآباتي بولس نعمان والأستاذ ميشال إده لمناسبة عيد مار مارون وقالا كلاماً يغسل القلوب ويعلو بقائله وبسامعه فوق النَعْر.
محزن أن يكون الجوّ الهادئ في هذين اللقاءين هو لحظة استثنائيّة بينما القاعدة في التخاطب السياسي والإعلامي هي الصراخ والتهديد. السلام الداخلي الذي تحدّث عنه عون ونصر الله كنتيجة لورقة التفاهم بينهما يجب أن يُعمَّم ويصبح حقّاً للشعب أولى من الخبز. وهذه مسؤوليّة الجميع. وعلى أهل 14 آذار التحسّس بضرورتها هُم قبل غيرهم ما داموا يتقدّمون الصفوف في رفع راية السيادة والاستقلال والحريّة.
إن مَن يسوق الناس إلى التقاتل هم الزعماء ومَن يَرْتقون بهم هم الزعماء. وقَطْعُ الطريق على الاستعمالات الخارجيّة للخلافات الداخليّة هو مسؤوليّة الزعماء، التي تشمل أيضاً شلّ قدرة اللاعبين وراء ظهورهم.



لحظة مشتركة

اعتقدتُ، عهد الدراسة التكميليّة، أن روح الحقّ كائن أعظَمَ ما يكون في العلماء، ولا سيّما أهل الاختراع والاكتشاف، وعلى الأخصّ الأطباء. أصابني ضَيم لأن المدرسة لا تُعلّمنا سِيَر هؤلاء المحسنين بل تُلهينا بسيَر المجانين والمصدورين من الأدباء المفتتنين بأنفسهم، وإن هم أحسنوا، أنتجوا كتباً مثل التماثيل في المتاحف.
ومضيتُ أقلّب القاموس لأحفظ أسماء العلماء.
في المرحلة الثانوية اعتراني هَوَس الموسيقيّين (رغم وفرة النرجسيّة والسلّ بينهم) وترجمتُ هوَسي مقالات نشرتُها هنا وهناك، يحدوني دوماً ذلك الشعور بعدم استحقاق الشعراء والأدباء للشهرة التي خصّها بهم تاريخ التعليم، والحيف اللاحق بأهل الفضل.
يُدافَعُ عن ذلك إنْ أخذناه بمظاهره المباشرة. إنْ لم ندرك أن اللحظة الرائعة في غصون هذه الدوحة هي لحظة واحدة، مشتركة، لحظة الشرارة الخارقة، أو الوحي ـــــ وهي لحظة شعريّة.
أفلام السينما تنطوي على هذه اللحظة مثلما انطوت عليها «الآثار» الماضية. لحظةٌ تُوزّع قربانها بين «المفيد» و«الجميل»، بحسب الترتيب التقليدي، ولكنها الرعشة الوَجْديّة ذاتها.
يَكْرَه الطالب «مادة» الشعر إذا كان معلّموها مُضْجِرين. أو، وهذا هو الأغلب، لأن المناهج تسيء الاختيار والسِيَرَ الجيّدة نادرة.
قد يستوطن الشعرُ الأدبَ لكنّه لا يَنْحدُّ به. وقد يُؤْثر لغة على لغة لكنّه ينطق بكل تعبير وبدون تعبير، وفي هنيهات الفراغ التام، أو عبر لوحات من الطبيعة لم تَسْعَ لأن يشاهدها أحد.
ولأنّ الشعر ممكن في كلّ شيء، بل موجود حيٌّ في كلّ شيء شرط أن نراه وأن نعيشه، نقول: لا حياة بغير الشعر. وليس الشعراء هم وحدهم شعراء، جميعنا شعراء، ولو كان معظمنا في حالة عَمى الجنين لا نعرف متى تَلْفحنا النعمة.



الاختلاف

أكثر مستعملي الصيغ العسكرية هم الشعراء. «لن يكون كذا بل كيت». «الكذا يكون كذا أو لا يكون». «يحيا». «يسقط». «هيّا». الشعراء وسائر رُماةِ الحجارة في اتجاه القمر. فُحُولة إنشائيّة. الشعراء يريدون إعادة تكوين العالم. فجأة، باللغة، يحسبون أنّهم أعادوا تكوينه، والباقي ترتيبات إجرائيّة، أوامر.
لا يُشوّش هذه النظرة الاستبداديّة غير «دخول المرأة». صعوبة ذوبانها في رؤياه تُحيّر الشاعر. معها، يكتشف الاختلاف «الحقيقي». لا يكتشفه إلاّ معها. اختلافٌ يَهْبله ويستعصي عليه استعصاءً هادئاً، دون جهد. الشعراء يغيّرون العالم والنساءُ يغيّرنَ الشعراء.
وإذ تَغْرق المرأة في نشوة هذا الاحتفال بها، يزيدها جهلها لسبب أهميتها، جاذبيّةً في نظر الشاعر. وكلّما ازداد الجهل ازداد الاحتفال، حتى حصول الخلل في إحدى الجهتين: إمّا عودة الشاعر إلى رشده فيستفيق من أُخْذَته، وإمّا ارتكابُ المرأة «خطأ» يخرج بها من التناغم إلى النشاز، ويلغي في لحظةٍ تأثيرَ سحرِ الاختلاف قالباً إيّاه من الشغف إلى اللامبالاة ومن أعجوبة إلى عقاب.



هاجس مُنْقذ

مهما تعدّدت المرّات، لا يكتشف المرء نهايته حقّاً إلاّ مرّة واحدة، غالباً عندما يبتلعه مَشْهدُها. ماذا يأخذ معه تلك اللحظة؟ رعبه، رعب قدمٍ تَزلّ، أو غَدْرٍ صاعق، أو رعب خلاصٍ كان مأمولاً حصوله بشكل آخر.
هناك أملٌ ضعيفٌ في نَجْدة تخفيفيّة عن طريق الهاجس: أن يكون المرشّح للانزلاق مسكوناً بفكرة محجّرة، فربَّ هاجسٍ أطغى من لحظة الموت.



امرأة غير متوقّعة

امرأة غير متوقَّعة، هل هي موجودة؟ ألسنَ متوقَّعات بحكم كونهنّ مرايا للطبيعة؟ حين نقول عن واحدة أنّها غير متوقَّعة، هل نعدو إطار المجاملة؟ ألا نُحمّلها أكثر ممّا تشتهي؟
طبيعيّة، ربّما، ومع هذا غير متوقَّعة. وغير طبيعيّة حتّى لو رُبطت عضويّاً بالطبيعة. غير طبيعيّة بمعنى الإدهاش لا بمعنى الجنون.
وغير متوقَّعة لأنّها برمشة عين قد تلغي زمناً، وبرمشة لا تعرف يُمنى وعيها ما تفعله يُسرى وَهْجها. غير متوقَّع فعلها ولا ردّ فعلها، تجيء من أعماق غيومها، لا أنتَ تتحسّب ولا هي تدري.
امرأة غير متوقَّعة أكثر من جملة مُشْرَع سبكُها على المجهول.



ربّما

إعادة كتابة.
هل هناك كتابة ليست إعادة كتابة؟
إعادة حياة.
هل هناك حياة ليست إعادة حياة؟
اكتشاف.
هل هناك اكتشاف ليس إعادة اكتشاف؟
خلاص.
هل هناك موتٌ ليس إعادة موت؟