صور ـ آمال خليل
في عام 1976 استحدثت وظيفة «حارس آثار» وحظي بها من حظي. ومنذ ذلك التاريخ يعيش هؤلاء الحرّاس في حمى المواقع الأثرية حتى بات حالهم من حالها... وخصوصاً عندما يقلّ عدد الزوّار ويعاملهم مرجعهم الرسمي كما يعامل المواقع المهملة والمنسية
يقتصر عدد المواقع الأثرية في الجنوب، والتي فتحت وزارة الثقافة أبوابها للعامة، على ثمانية فقط. وقد حظيت تلك المواقع، ومنذ سنوات طويلة، بنعمة الحراسة التي يقوم بها موظفون رسميّون عيّنوا بمرسوم صدر في عام 1976.
يتولى حراسة موقعي البص والمدينة الأثريين في صور 16 حارساً بسبب كبر مساحتهما، فيما يتوزّع الحرّاس «بالمفرّق» على المواقع الأخرى، حيث هناك حارس واحد في كلّ من معبد أشمون في صيدا وقلاع تبنين وشمع والشقيف وصيدا ومغارة قانا.
يوضح مسؤول الآثار في الجنوب علي بدوي أن «مهمة الحرّاس حماية الموقع المعرّض بشكل دائم للسرقات التي انحسرت بفعل وجود الحرّاس، إضافة إلى النقاط الثابتة لقوى الأمن في جميع المواقع».
هؤلاء الحرّاس موظّفون رسميون، يستفيدون من الراتب الشهري الثابت والضمان الاجتماعي، ويعملون حتى انتهاء الدوام المحدد. لذا، فإن نعمة الحراسة نهارية، وفي الليل تُترك الآثار لحظّها وحماية الله من احتمال التخريب والسرقة. وحده موقع البصّ يحظى بحراسة دائمة في كلّ الأوقات لأنه مفتوح من كل نواحيه على الضواحي السكنية المحيطة.
«زميل يا محسنين»
يعدّ حراس موقعي صور أنفسهم الأكثر حظّاً بين زملائهم لأنهم يتآنسون ببعضهم البعض، فيما يتجوّلون بمفردهم مرات عدة خلال الدوام اليومي بين أرجاء الآثار. هم يستمتعون أيضاً بسنواتهم الأخيرة في خدمة مواقع الوطن التي بدأوها منذ عام 1976، قبل أن يحالوا إلى التقاعد. وتضيف المدينة وقرب الموقعين من البحر حالة من الأنس يشعر بها الحرّاس، والتي نجحت طيلة السنوات الماضية في منع الملل من التسلّل إليهم.
لكن الوضع مختلف بالنسبة إلى غيرهم من حرّاس الآثار في بقية مناطق الجنوب، ولا سيما تلك المنزوية في أماكن نائية في الجبال أو الأودية بعيداً عن الناسقبل أربع سنوات، «أُلقي» فايز شكر وحيداً في عراء قلعة الشقيف لحراستها بعد أن كان موظفاً رسمياً من ضمن الفائض في وزارة الإعلام. يومها خيّر لملء فراغ إحدى وظائف الدولة فاختار أن يحرس «المكان الذي كان مؤنساً أكثر في السابق»، ويقصد قلعة الشقيف. عندما اختار الأمر كان هناك استراحة قرب القلعة، إضافة إلى موقع للجيش اللبناني. لكن الجيش نقل عناصره من المكان وأقفلت الاستراحة أبوابها وخلا المكان الواسع ليعود فايز وحيداً يتمشّى مع الهواء القارس.
واللافت أن المديرية العامة للآثار لم تلتفت إلى وضع الحارس الأول للقلعة منذ تحريرها من الجيش الإسرائيلي في عام 2000، ولم تفتش عما يؤمن له حراسته الشخصية. إذ لا توجد نقطة في ذلك الموقع النائي ليجلس فيها، فيكون مضطراً للجلوس في سيارته الخاصة التي تحرس سلامته الفردية.
لا يشعر فايز بالأنس إلا عند زيارة طلاب المدارس للقلعة، حينها يضطلع بدور المرشد السياحي المفقود في كلّ المواقع الأثرية... إلا إذا استدعاه مسؤول الموقع في حال كثرة السيّاح.

مزّين أثري

يعدّ علي الشامي (55 عاماً) حالة خاصة بين الحرّاس فهو لا يستسيغ لقب الحارس لأنه ليس كذلك، بل هو «ناشط في لجان بلديته قانا». تطوّع للاهتمام بموقع المغارة واستقبال بعض السياح والكثير من المؤمنين الذين يفدونها من مختلف المناطق للصلاة. يذكر أن بلدية قانا هي التي أهّلت الموقع، فيما تعد وزارة الثقافة بتحمّل مسؤولياتها وشمل الموقع في أجندتها وتوظيف موظفين لحراستهاعلي يمتهن التزيين النسائي ويملك صالوناً في البلدة حيث يقسّم وقته بينه وبين الخدمة التي يسديها لبلدته، فلا تسري عليه المسؤولية الرسمية المنوطة بسائر الموظّفين، أملاً بأن يصبح زميلاً لهم عمّا قريب. قد لا يكون سبب الرغبة في الالتحاق بالوظيفة الالتصاق بالتاريخ في غالب الأحيان، بل فرصة للتوظيف والحماية المعيشية في الظروف الراهنة. ينتظر استبدال التطوّع بالوظيفة، عندها لن يتورّع عن تمضية وقته خلال الدوام «بتزيين الصخور والأجران كما يزيّن وجه امرأة».
وقد يكون هذا حلماً قابلاً للتحقيق، ذلك أن وزارة الثقافة كانت قد وافقت على توظيف دفعة جديدة من حرّاس الآثار بسبب الحاجة الملحّة التي تستدعي منذ سنوات طويلة زيادة عدد الحرّاس في المواقع المحروسة وحراسة تلك المتروكة لقدرها. لكن هذا لم يتم حتى الآن لأسباب تتعلق بتحديد آلية التوظيف المغلقة أبوابه في مؤسسات الدولة واختيار الموظفين.
في غياب الزوّار وقلة حيلة مديرية الآثار، يحرس الحرّاس لقمة عيشهم التي اقتنصوها من فم الدولة قبل ثلاثة عقود فاستحصلوا على الوظيفة والمعاش الشهري والضمان الاجتماعي. فيما ينتظر آخرون فتح أبواب الحظ والمواقع الأثرية في دورة التوظيف الجديدة ليفوزوا بلقب «حراس التاريخ».