strong> رنا حايك
•تحدّت رجال قريتها فبنت حسينية للنساء في حداثا وأسست جمعية في بيروت
أمران كان لهما دور في دفع الحاجة فاطمة أبو رضا إلى الاستمرار في تحقيق أحلامها وتطوير ظروف حياة النساء: «زيارة» السيدة زينب لها في المنام التي أمدّتها بالقوة حين تكاتف رجال القرية ضدها، ومساعدة رجال متنوّرين لها مثل السيّد موسى الصدر والزعيم كمال جنبلاط

تتكئ على عصا اقتطعتها من شجرة «لوز مرّ» في أحد وديان قرية حدّاثا. يشعّ وجهها بسماحة الأم وحزم المرأة الحكيمة وهي تلج باب الصالون الواسع في مقرّ «جمعية السيدة زينب الخيرية» التي ترأسها والكائنة في كليمنصو. الحاجة فاطمة أبو رضا لم تصبها حمّى قضية تحرّر المرأة التي ردّدت النساء شعاراتها بغنائية وانضوين تحت لواء جمعيات نسوية نخبوية للدفاع عنها، بل كرّست حياتها بالفطرة لهذه القضية وانتهجتها في أسلوب حياتها. اكتسبت محبة واحترام محيطها من الرجال بعد طول ممانعة، وربحت أسرة من أحد عشر ولداً ربّتهم على نهجها في فعل الخير.
نشأت الحاجة فاطمة في أسرة متدينة ومتنوّرة أتاحت لها متابعة دراستها حتى المرحلة المتوسطة. ساعدت والدها في مدرسة تعليمالقرآن التي أدارها في بيروت، ثم في فصول محو الأمية التي نظّمها في قرية حداثا التي انتقلت الأسرة للإقامة فيها خلال الخمسينيات من القرن الماضي. تبتسم برفق وهي تتذكر كيف كان والدها يتقاضى أجره قمحاً وعسلاً وبيضاً من أهالي القرية الذين كانوا يحترمونه على قاعدة «من علّمني حرفاً كنت له عبداً».
حين بلغت الثامنة عشرة من عمرها، قال لها أهلها: «يللا تحمّمي، اليوم كتب كتابك». ففعلت، وانتقلت بعد زواجها للإقامة في بيروت، لكنها ظلّت تقضي كل صيف في حداثا.
كان آل بيت النبي محمد يزورونها في المنام منذ طفولتها، مثلما تخبر وهي تستعيد أحلاماً بيضاء مضيئة لشخصيات دينية سكنتها بتأثير من المناخ الأسري الذي نشأت فيه، كانوا يأتونها ويحثّونها على فعل الخير. تجربة الحاجة فاطمة تدعوها إلى التأكيد على أن: «عاشوراء هي التي حرّرت النساء». فالتقاليد والمراسم الدينية التي تفرض على النساء مشاركتهن بها مثّلت عذراً شرعياً لنساء الشيعة للخروج من منازلهنّ. وعلى نطاق أوسع، يؤدي الدين دور بوابة التحرّر بالنسبة للنساء، هو الذي دفع الحاجة فاطمة إلى إيجاد مساحتها عضوةً فاعلة في مجتمعها، وهو الذي أمدّها بالصبر في مواجهة رجال استفزّتهم حالة «إنو مرا تعمل أوادم؟! شو تركتلنا؟!».
و«أوادم» هي الصّفة التي أطلقها رجال حدّاثا على أنفسهم بصفتهم قيّمين على مجتمعهم وقوامين على نسائهم ومسؤولين عن أي نشاط أو فعل يدور على أرض قريتهم. الحرب الشّعواء التي زجّت الحاجة نفسها فيها بدأت حين أخذت على عاتقها بناء حسينية للنساء في قريتها.
فقد أصابتها الغيرة حين حضرت مراسم أسبوع أحد المعارف في قرية زبدين واكتشفت أن لنساء تلك القرية حسينيتهنّ الخاصة. عادت يومها إلى القرية وباشرت بجمع التبرعات. دفعت كلّ امرأة من نساء القرية ليرة ثم رافقنها لجمع التبرعات من الميسورين في القرية. وعدتها السيدة زينب في أحد المنامات بمساعدتها، فأمدّتها بعنفوان الممانعة حين تكاتف رجال القرية ضدها محاولين مصادرة مشروعها.حرّضوا عليها زوجها وإخوانها وأحرجوهم لأنها «نزعتلن نسوانن». أحد الأزواج أهوى بعصاه على زوجته التي رافقت الحاجة في إحدى جولاتها لجمع التبرعات من دون أن تعدّ له فطوره، فكسر لها ضلعاً تكفّلت الحاجة بنقل صديقتها إلى مستشفى تبنين لمعالجتهقاد ذكاء الأنثى الفطري وإصرارها هذه المرأة للجوء إلى رجال متنوّرين ومتدينين يحمونها في مواجهة رجال القرية: بدأت بالشيخ محمد تقي الفقيه من حاريص، فطمأنها إلى أحقّية عصيانها وشرعيته في مجتمع ذكوري لم يعتد التسامح في هذا المجال.
قصدت السّيد موسى الصدر بعد أن اشتدّ الضغط عليها خلال فترة تشييد الحسينية، فقال لها: «بدّي 100 مرا متلك». أعجب بقوتها، هي التي تشرف بنفسها على ورشة البناء، ودعمَها فسلّمها دفتراً لجمع التبرعات مختوماً من المجلس الشيعي الأعلى تذيّله عبارة: «بالصبر تبلغ ما تريد وبالتقوى يلين لك الحديد».
أمدّها دعم السيد موسى الصدر بالشجاعة والحماسة لتكمل مشروعها، فانطلقت لجمع المزيد من التبرعات والدعم. أتاح لها وجيه القرية المحامي عبد الله الغطيمي لقاء مع كمال بك جنبلاط الذي وفّر لها من معمله بعض أكياس «الترابة» اللازمة للبناء. كذلك قصدت كامل بك الأسعد فلم يبخل عليها بالدعم بدوره.
بُنيت الحسينية في حداثا، لكن دور الحاجة فاطمة ونشاطها لم ينتهيا. فإلى جانب الفعاليات التي دأبت على إقامتها في الحسينية. حثت نساء قريتها على الإنتاج، تصاحبهن خلال فصل الصيف إلى الحقول لتسليق النباتات وتنسّق بينهن لتبادل أنواع المؤونة، وبينهن وبين معارفها في المدينة، إلى أن تبلور نشاطها هذا وتأطّر رسمياً عند إنشاء «جمعية السيدة زينب الخيرية» عام 1988.
مقرّ هذه الجمعية في بيروت، يتنوّع نشاطها بين المساعدات الاجتماعية والاقتصادية للأسر وتفعيل برامج مثل برنامج «تدريب المرأة الريفية في الاعتماد على الذات»، ومساعدتهم على إعالة أطفالهم من خلال التعاون مع مدارس لتوفير المنح المدرسية، وإقامة نشاطات تربوية وتثقيفية. كذلك تقدم الجمعية خدمات صحية وأخرى نفسية بواسطة «مركز التوجيه والإرشاد النفسي» الذي تشرف عليه ابنة الحاجة فاطمة، المستشارة في علم النفس الدكتورة زينب عيسىتحرص الحاجة فاطمة على التأكيد أنها رغم خلفيتها الدينية الشيعية، فإن رسالتها، كما توصي جميع الأديان، يحكمها الانفتاح نحو الآخر دائماً وأبداً. تقول إن جميع الطوائف تكون حاضرة في إفطارات موائد الرحمن التي تقيمها يومياً خلال شهر رمضان من كل عام، وكذلك في موسم عاشوراء خلال مجالس العزاء وعند إعداد طبق الهريسة يومياً لمدة عشرة أيام.
خلال الحرب الأهلية نزحت الحاجة إلى عاليه، فافتتحت محلاً لبيع الأحذية أمّن وظائف لعشرة شبان من النازحين. هناك كوّنت علاقات ودّ مميزة مع محيطها، وكثيراً ما كانت تدعوها جاراتها المسيحيات لتقرأ «الرّقوة» لأبنائهن وبناتهن.
لم تتعب الحاجة فاطمة بعد، تصلّي الفجر، تتناول قهوتها الصباحية، وتقصد كورنيش المنارة سيراً على الأقدام، تتمشى على «البحر» وتعقد صداقات جديدة و«صبحيات» تعرّفها كل يوم بنساء جديدات. فالمرأة يجب أن تعي دورها بصفتها عنصراً منتجاً في المجتمع لا أن تنتظر الحصول على المال دون أن تبذل مجهوداً. تمتد الحكمة الفطرية التي تتميز بها هذه المرأة لسنوات، وتنسحب على إصرارها على متابعة رسالتها: «المرأة أصبحت اليوم أقوى مما كانت عليه، لكن الدّرب لا تزال طويلة».



فرخ البط

راكمت الدكتورة زينب ابنة الحاجة فاطمة الكثير من الشهادات الجامعية في الاقتصاد وعلم النفس واللغات. كذلك عملت في الكثير من المجالات قبل أن تتفرّغ لمساعدة والدتها في أمور الجمعية وإدارة مركز التوجيه والإرشاد النفسي التابع لها، إلى جانب عملها في عيادتها الخاصة للاستشارات النفسية وإصدارها لنحو 14 مؤلفاً تتنوع مواضيعها بين علم النفس والمواضيع الدينية، وإعدادها للدكتوراه في «الخطاب الرسالي للسيدة زينب بعد واقعة كربلاء». رغم كل هذه الخبرة التي راكمتها ما زالت تراقب والدتها حتى اليوم «وأستفيد من خبرتها في معاملة الناس برأفة ورحمة وحزم في الوقت ذاته».
تحاول أن تتمثل بها، تربطهما علاقة وثيقة منذ طفولتها، وتحتفظ لوالدتها بالفضل لأنها كانت السبب وراء تشجيعها على العمل التنموي. «لم تحرمنا أمومتها رغم انشغالها، بل وجّهتنا جميعاً عن غير قصد أحياناً إلى سلوك نهجها في الحياة». إلا أن الحاجة وجّهت زينب عن قصد في بعض الأحيان، حين طلبت من مدير مدرسة من معارفها أن يكلفها تعليم بعض الصفوف بقصد صقل شخصيتها وهي لا تزال في السادسة عشرة من عمرها، وحين دفعتها إلى الانخراط معها في النشاط الأهلي وواجهت ممانعتها بجملة لا تغيب عن ذهن زينب. «لشو علّمتك؟ شو بينفع علمك إذا ما استفدتي منّه؟».