أحمد محسن
ينتظر أن تشهد ساحة الشهداء الخميس المقبل عودة «جماهير 14 آذار» إليها... هذه الساحة التي احتضنت مشاركة واسعة لشبان لبنانيين انخرطوا في «العمل السياسي» على «الجبهتين». بعد ثلاثة أعوام على تلك المشاركة، تشهر قلّة اليوم الحياد موقفاً حقيقياً رغم الأسى على «الفراغ» والحنين إلى «نضالات» مضت...


قبل تحرير الجنوب وحتى عام 2000، كان اللبنانيون يعلّقون على ملابسهم الشارات الصفراء في يوم الرابع عشر من آذار من كلّ عام تضامناً مع الجنوب والبقاع الغربي، اليوم الذي اجتاحت فيه إسرائيل لبنان للمرة الأولى عام 1978.
بعد سبعة وعشرين عاماً بالتمام، أي في الرابع عشر من آذار في 2005، وبعد شهر واحد على اغتيال الرئيس رفيق الحريري، حلّت مكان الشارات الصفراء توأمها الزرقاء، وذلك عند مجموعة كبيرة من مناصري السلطة الحالية. شارات متشابهة في الشكل والحجم، لكنها زرقاء اللون تعبّر عن الرغبة بمعرفة حقيقة الاغتيال.
لم يتبدّل حجم الشارة ولا تاريخ اليوم، بل تبدّلت الصراعات في المنطقة. وانعكس الأمر على لبنان حيث انقلبت التحالفات السياسية رأساً على عقب. صار بعض الأحزاب «اليسارية» معادياً لدولة عربية كبيرة، وانتقل بعض التيارات المحافظة إلى مناهضة الإمبريالية الأميركية! وبدا أن اللبنانيين يعلّقون الشارات على صدورهم فقط، ولا يصنعون الأحداث.
هكذا، تمزقت بيروت بين ساحتين، خرجت كلٌ منهما من رحم الأخرى. انقسم الشباب إلى أرقام، كبر التدخل الخارجي ليصير وقحاً جداً. أثناء المدّ والجزر السياسيين عصفت بالبلاد أيام قاسية، لم يستطع خلالها الساسة وأحزابهم العودة إلى الحياد. الشباب وحدهم فعلوا ذلك، رغم التردد في البقاء على الحياد أو العودة إليه.

محايدون ولكن

بعض الناشطين السابقين في الأحزاب، ورغم اعتزالهم العمل السياسي في ظل استمرار هذه التحالفات الهجينة، يجدون صعوبةً بالغة في اعتبار الفريقين متساويين.
تاليا رحمة، المنتسبة السابقة إلى «القوات اللبنانية» تأسف لما آلت إليه الأمور. «أحتفظ بروحية القوات، لكن المشاركة في فعّاليات الرابع عشر من آذار لم تعد ممكنة، أنا لا أثق إلا بالقوات». تضيف بصوت يزداد ارتفاعاً: «الأطراف المسيحية الأخرى غير مقنعة على الإطلاق بالنسبة إلي». وتؤكد أنه في حال حصول أي تظاهرة أو تجمع آخر على شاكلة الرابع عشر من آذار فهي لن تشارك، لكن... «صحيح أني تركت 14 آذار إلّا أن الجنرال عون ما زال يزعجني»، تختم حديثها بمزحة لطيفة، ذلك أن الحياد مقبول «إلا في ما يتعلق بالقوات»!
بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري وانقطاع «شعرة معاوية» بين اللبنانيين المتنازعين، ترك سليم صفوف الحزب الشيوعي كمناصر على الأقل، ليلتحق بتيار «المستقبل»، لأسباب «مفهومة» تماماً. يصّور سليم تجربته في التيار بـ«العابرة»، إذ «آمنت بمشروع الرئيس الشهيد»... ثم «كنت أسأل دائماً داخل التيار عن ماهية المشروع وكنت أختنق عندما نجتمع مع منظمات طلابية لا تكنّ العداء لإسرائيل»، برأيه «كان تاريخ 14 آذار حلماً جميلاً تحوّل إلى كابوس!».
لا يخفي سليم أنه انقاد نتيجة حملة تجييش مذهبية حصلت، محمّلاً ما يحصل للطرفين بالتساوي. بعد حرب تموز تحديداً، عاد سليم من حيث بدأ. الحرب أعادته إلى النقطة الصفر، وحتى الحزب الشيوعي البعيد عن الطائفية كل البعد لم يعد يرضيه لأن «هجومه على الحكومة غوغائي وبلا نفع».
البعض لم ينزعج من المجموعات إنّما انقلب كلياً على كل شيء، كحوراء طالبة كلية الآداب في الجامعة اللبنانية، التي كانت مع حركة «أمل» حتى تعرّفت إلى سمير قصير. حوراء لم تجلس مع الشهيد قصير يوماً، كما أنها لا تعرفه شخصياً، لكن الفضول دفعها إلى قراءة كل ما كتبه بعد استشهاده. «هذا الرجل غيّرني كثيراً»، تقول «تعرّفتُ إلى فلسطين عن قرب، وإلى سوريا عن قرب. أيقنت أن كلّ ما أسمعه على التلفاز من شعارات وكل ما رددناه في الثامن من آذار لا يغتفر»، تبقى نقطة واحدة لا تفهمها وتسأل عنها دائماً «ماذا كان يفعل رجل مثل سمير قصير في الرابع عشر من آذار؟ برأيها أنه لو أنّه حيّ لما كان رضي بما يقوم به هؤلاء الجماعة الآن».

أحلام بلا أمكنة

اتهمت المعارضة اللبنانية حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بالتواطؤ مع الولايات المتحدة، فاعتصمت في الأول من كانون الأول 2006 مطالبةً بالمشاركة بالحكم. لكن بعد الاعتصام المفتوح الذي أقامته في وسط بيروت، وعدم إنجازه شيئاً من وعوده، حصلت بعض الانقلابات في صفوف المناصرين... وبعض الأحزاب المشاركة أيضاً.
فقد أزالت «حركة الشعب» الخيم الخاصة بمنتسبيها من الاعتصام في الآونة الأخيرة. أحمد قمح مؤسّس «منتدى صوتك» الإلكتروني (الذي يضم أكثر من ألفي مشترك من كل الأطياف السياسية) يبرّر الانسحاب من المعارضة بالنتائج المخيبة للاعتصام، وتجنب «حزب الله» دعم مرّشح الحركة في انتخابات بيروت الفرعية.
من جهة أخرى، أحدثت الأفكار «العروبية» التي يحملها أحمد فجوةً عميقة بينه وبين المشاركين الآخرين، حيث كان معتصماً لإسقاط الحكومة التي خيّبت أمله في حرب تموز، بينما كان يلتقي مشاركين في التيار العوني يريدون إسقاط السنيورة لأن «التمثيل الماروني» غير صحيح في الدولة. «شعرت بأنني ضائع وسط هذه الكمية الكبيرة من الطائفية»، يبتسم أحمد بألم. «لم أذهب إلى الرابع عشر من آذار لأن الطائفية نفسها تعشّش هناك، كما أني أحب المقاومة وأفّضل البقاء قريباً منها، لكن فليسمحوا لنا نحن لسنا 8 آذار»، يقول مستغرباً تصنيف «حركة الشعب» ضمن هذه المجموعة!
على عكس أحمد، تمسك فاطمة ألمها جيداً فلا تظهر مبتسمة. تعترف بأنها شاركت في أغلب التظاهرات التي حصلت. كانت تشارك كل مرة لتحصل على أمل جديد، وترى أبناء وطنها كيف يتعاملون مع الحوادث. في اعتقادها أن «القضايا والشعارات كلها محقة، لكن لا أحد من المسؤولين يستحق الولاء. كلهم طائفيون، كلهم يأكلون من لحم الفقراء».
فاطمة الآن تشارك في النشاطات الشبابية التي يقيمها «اتحاد الشباب الديموقراطي» وترفض أي صفة سياسية «عملنا هنا اجتماعي فقط» تردف بهدوء، وتشرح تنوّع النشاطات التي يقوم بها الاتحاد، من حصص التثقيف الموسيقي، مروراً بمساعدة أطفال المخيمات الفلسطينية، وصولاً إلى المطالبة الدائمة بتحسين ظروف المعيشة. «لا أحد من الأحزاب في الثامن أو في الرابع عشر يتبنى أحلامي فأين أذهب؟» تقول فاطمة.

المعادلة الصعبة

الزميل رامي الأمين يقول إن الحياد ليس ممكناً، فإن لم تكن مع الثامن من آذار و«حزب الله» تحديداً، إذاً فأنت مع الفريق الآخر والعكس صحيح. يعلن الأمين أن الرابع عشر من آذار مات في الليلة التي سبقته، لكنه شارك في التظاهرة الكبيرة رغم كل الشوائب، لأن الرابع عشر من آذار كان يعني له الخامس والعشرين من أيّار 2000، «الشعور نفسه والاستقلال نفسه».
بيد أن الأمين في تلك الفترة لم يستطع أن يفهم كيف تحوّل حلفاء الرئيس عمر كرامي «التقليديون» في الشمال إلى أعداء له بين ليلة وضحاها (المقصود هنا النائبان بطرس حرب ونائلة معّوض). في السياسة، بقي متبنّياً مواقف هذا الفريق لأنه لم يستطع أن يكون مع ذاك، لكن «بقي موقفي المعادي لإسرائيل ثابتاً هنا، مع إضافة الموقف السلبي من النظام السوري، لكن في الثامن من آذار لست حرّاً كفاية لانتقاد الجميع». يتابع الأمين: «في النهاية، مات الطرفان نهائياً وقتلا بطريقهما معظم أحلام اللبنانيين». ويقول إنه «مشتاق إلى 25 أيار و14 آذار وإلى كلّ المحطات الاستقلالية، لكني أخشى أن يكون شعبي قد أضاع أحلاماً لن تعود أبداً».



«التيار» بين ساحتين

مثّل «التيار الوطني الحرّ» الركن الأساس في تجمّع الرابع عشر من آذار، وبعد التغيّرات العاصفة في البلاد انتقلّ إلى الضفة المقابلة سياسياً. هو مشارك رئيسي في الاعتصام المفتوح منذ أكثر من عام في وسط المدينة، كما أنه دعم «حزب الله» في حرب تموز الأخيرة.
الناشط في التيار حكمت ديب يصف الأمر بتعبير «تجربة الساحتين»، مؤكداً أن «تجربة الاعتصام المفتوح هي الأفضل، من ناحية الصدق المتبادل والوفاء للشريك، عكس ما واجهه الشباب العوني في الرابع عشر من آذار، لأنهم صدموا بالمزايدات التي كانوا يتعرضون لها بشأن السيادة اللبنانية، فيما كانوا هم المناضلين الفعليين من أجل هذه السيادة».
داني المؤيّد العتيق للتيار الوطني الحر يرحّب بتجربة الاعتصام لكنه لا يزال يجد نفسه ضد الوصاية السورية بكل أشكالها. فيما يلقى الخطاب «المسيحي» الذي ينتهجه التيار حالياً على حساب الخطاب العلماني «القديم» أصداءً مختلفة في أوساط مناصري التيار ومحازبيه. بلال المقيم في الضاحية يشعر بأنه غير معني أبداً بالكنيسة ولا سلطة لها على الناس، وترداد الخطاب الطائفي جعله يترك التيار. فيما يرحب جو، طالب العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف بالخطاب الحالي، ويتلاقى مع ديب في تحليله للظاهرة، مذكراً بوقفة التيار الوطني في حرب تموز التي تمثّل خير دليل على «الوحدة الوطنية». يؤكد ديب أن «الشيعي في التيار يدافع عن حقوق المسيحين، والمسيحي يدافع عن حقوق الشيعة، والتفاهم مبني على أسس متينة حقاً».
تجربة العونيين تثبت جدلية الحياد وصعوبة البقاء عليه، فحين عجز التيار عن البقاء في تجمع الرابع عشر آذار لأسباب عديدة، شدّ الرحال وتفاهم مع القوة الأساسية في الثامن منه. النقلة النوعية أثارت جدلاً بين أوساط الشباب. منهم من يرفض حتى الآن استعمال مصطلح «التحالف» مع حزب الله. الانتقال إلى الضفة المقابلة كلّف التيار أمرين: الجدل الواسع في صفوف مؤيديه في بادئ الأمر، وعلمانيته المزعومة في نهايته، حتى أمكن القول إن في خارج التيار اليوم «عونيين» كثراً... على الحياد.