نقولا ناصيف
رسائل النهار تلقفها الليل برسائل مماثلة، فاستعاد الجميع هدوءهم وطووا إلى حين التصعيد غير المبرّر، سوى أنه يعبّر عن المأزق السياسي الذي يتخبّطون فيه. بعد سلسلة مواقف تلاحقت السبت والأحد على لسان أركان قوى 14 آذار، وبلغت ذروتها وأكثرها حدّة ــــ وليست المرة الأولى ــــ في خطاب رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط، جاءت الأجوبة مساءً. كان قد ضاعف من وطأة رسائل النهار، ثم أجوبة الليل، اقترانها بحوادث أمنية أنبأت بما هو أسوأ وأدهى من لغة التهديد المتبادل: اشتباك درزي ــــ درزي في عاليه، وإطلاق نار متكرّر على بيت رئيس المجلس نبيه برّي. للتوّ وُجهّت رسائل ثلاث إلى المعنيين جميعاً بتصعيد النهار بطريقة غير مباشرة:
أولاها، من برّي مفادها أن التعرّض المتعمّد لعين التينة هو لعب بالنار ومجازفة خطيرة نظراً إلى انعكاساتها الخطيرة، سواء كحادث أمني غير منفصل عن اعتداء مشابه كان قد تعرّض له قبل ساعات مبنى مجلس النواب في ساحة النجمة، أو كعمل يقوم به أطراف آخرون من أجل دفع طرفي النزاع إلى فتنة داخلية ينهار معها كل شيء. مضمون رسالة رئيس المجلس أن ما حدث أو يحدث قد لا ينتهي عند هذا الحدّ.
ثانيها، من حزب الله عبر نائب رئيس المجلس السياسي النائب محمود قماطي بكلامه عن حدود الصبر.
ثالثها، من الجيش الذي باشر خطوات إجرائية على الأرض منذ الليل، واستكملها صباحاً بغية وضع الأمن تحت سيطرته لمنع تكرار ما حدث. فيما ذكرت معلومات في الساعات الأخيرة أن القيادة أعدت خطة أمنية يستمر تنفيذها في بيروت وضواحيها إلى ما بعد إحياء الذكرى الثالثة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري الخميس المقبل.
ترافقت الرسائل الثلاث مع إشارات إضافية كانت في ذاتها رسائل سياسية وأمنية ذات دلالة:
ــــ نفّذت عناصر من حركة «أمل» انتشاراً واسعاً في محيط عين التينة للحؤول دون تكرار إطلاق النار على بيت رئيس المجلس، سرعان ما توسّع إلى الأونيسكو والروشة مروراً بساقية الجنزير. وبدا هذا التصرّف إنذاراً إلى أن الشارع ليس متروكاً لفريق دون آخر.
ــــ تبلّغت السفارة السعودية في بيروت ليلاً من رئيس المجلس عبر رسول خطورة ما حدث في عين التينة، بالتزامن مع التهديدات السياسية، وانعكاسه على نحو بدا وكأن ثمة مَن يريد أن يدفع إلى فتنة مذهبية.
ــــ تلقّى برّي مكالمة هاتفية من رئيس تيار المستقبل، النائب سعد الحريري، الذي استنكر إطلاق النار على منزل رئيس المجلس، وأوعز إلى معاونيه طلب منع المواكب السيّارة تفادياً لاستغلال البعض إحياء الذكرى الثالثة لاغتيال الحريري كي يدفع بالوضع الداخلي إلى المجهول، وفي ظلّ الإصرار على إبقاء الخلاف في نطاقه السياسي ليس إلا.
ــــ أُجري اتصال بين معاونين لجنبلاط وآخرين لرئيس الحزب الديموقراطي اللبناني النائب السابق طلال أرسلان، أفضى إلى تدارك نتائج تبادل إطلاق النار بين عناصر من الطرفين في عاليه، ومنع تكراره.
في حصيلة الليل الطويل من الاتصالات والجهود البعيدة عن الأضواء، التقط الجميع أنفاسهم واستعادوا صوابهم.
على أن ما حدث انطوى بدوره على دلالات أخرى:
1 ــــ إن فقدان الأفرقاء اللبنانيين سيطرتهم على الشارع لا يتطلّب جهداً وعناءً كبيرين، نظراً إلى الاحتقان الحاد فيه، ولأن تجربتي الاشتباك في 25 كانون الثاني 2007 و27 كانون الثاني 2008، وتجارب مماثلة في البسطة أكثر من مرة وفي نفق سليم سلام، برهنت على أن الشارع عندما يتفلّت يصبح هو مَن يدير لعبة نفسه، لا الزعماء والسياسيون.
2 ــــ إن استمرار المأزق السياسي والتصلّب في الشروط المتبادلة يقود طرفي النزاع إلى أحد خيارين: تسوية ترغم أحدهما على التنازل للآخر أو الذهاب معاً إلى الحرب. وإذ بدا أن قوى 14 آذار والمعارضة يقرعان، بتفاوت، طبول الحرب، وهما يطرحان على الطاولة شروطهما للتسوية، فإن إمرار الوقت من دون اتفاق سياسي يحيل التسوية الساخنة حلاً وحيداً. مغزى ذلك أن يستدرج أحدهما الآخر إلى المواجهة في الشارع من أجل أن يجلسا مجدّداً إلى طاولة الحوار ويتفاهما، على غرار ما اعتاده اللبنانيون على مرّ عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي.
3 ــــ حُمّل كلام جنبلاط عندما أبدى استعداده للذهاب إلى الحرب أكثر ممّا يقتضي أن يحمل. وفي الوقت نفسه، حمل في نفسه نقطة ضعفه، وهو الحاجة إلى دق طبول الحرب من أجل اجتذاب الحشود الشعبية والأنصار إلى المشاركة في ذكرى الرئيس الراحل. بل كان المقصود بذلك إعادة استفتاء هذه الحشود على تأييدها الخيارات السياسية لقوى 14 آذار بعد مضي ثلاث سنوات على تجربتها، الأمر الذي لا تعكسه حقيقة زعامة البيت الجنبلاطي التي لا تحتاج إلا إلى حضور الزعيم، وصوته، كي يقود جموعه ومؤيديه وأنصاره إلى حيث يريد وكيفما يريد.
يصحّ ذلك على جنبلاط مقدار ما يصحّ على حليفه الحريري الابن، وعلى برّي وحزب الله من المقلب الآخر في الصراع السياسي، ما دام في وسع كل من هؤلاء الأربعة قيادة طائفته برمتها ــــ لا فريق سياسي في صفوفها ــــ إلى حيث يريد من غير أن تسائله.
ومع أنها ليست المرة الأولى التي يستفزّ فيها جنبلاط خصومه، ويقوّي عود حلفائه ويخيفهم في الوقت نفسه من تفرّده بخياراته وتوقيتها وتبريراتها وطريقة تعبيره، ويفاجئهم خصوصاً بألفاظه وتراكيبه، إلا أنه يدرك أن خيار الذهاب إلى الحرب يحتاج إلى خصم يريد هو الآخر الذهاب إلى هذه الحرب. وفي واقع الأمر، فإن خصمه الوحيد المعني بخيار كهذا هو حزب الله وأمينه العام السيد حسن نصر الله، لا القوى المحلية الضعيفة والهزيلة الحجم التي تحاول منافسته، بل مقاسمته زعامة الطائفة والمنطقة في آن واحد. والمقصود بذلك أرسلان أو الحزب السوري القومي الاجتماعي أو حتى الوزير السابق وئام وهّاب. ولأنه يدرك أن حزب الله، الوحيد القادر على الذهاب إلى الحرب، وهو يملك عدّتها وطريقة إدارتها، وربما الواثق من نتائجها، لا يريد التورّط فيها، تتولّد مخاوف الزعيم الدرزي من حروب صغيرة يشترك فيها أكثر من طرف، ومستفيد، تنفجر على أرضه في الشوف وعاليه من أجل إرباكه.
في هذا السياق، يمكن إدراج الحادث العابر ليل الأحد الفائت في عاليه، بين أنصار حزبي جنبلاط وأرسلان، ومسارعة الأخيرين، بالواسطة، إلى تدارك نتائجه والحؤول دون تفاقمه. ذلك أنه فتح باب التكهّن بأن وجوه الحرب المقبلة ــــ إذا وُجد لها فريقان لخوضها ــــ لن تكون اشتباكاً سنّياً ــــ شيعياً على أرض مشتركة، أو مسيحياً ــــ مسيحياً على أرض مسيحية، أو حتى شيعياً ــــ درزياً على أرض درزية فحسب، بل كذلك، وربما أولاً، درزياً ــــ درزياً على أرض درزية. وهو مغزى غضب الزعيم الدرزي من تزايد حالات التسلّح في منطقته.
بل يعرف، وهو أحد قلة من السياسيين اللبنانيين الأكثر قراءة واكتساباً من الدروس والعِبَر، أنه لم يذهب إلى «حرب الجبل» في أيلول 1983 ضد حكم الرئيس أمين الجميل إلا بعدما تأكد من وجود حليف وعدو له فيها. وهو منطق خوض الحروب. كذلك فعل عندما خاض في آب 1989 حرب سوق الغرب ضد العماد ميشال عون، وكان معه حليف يساعده على الخصم.
كذلك فعل من قبل والده الراحل كمال جنبلاط عندما انخرط في «حرب السنتين». كان متيقّناً سلفاً من وجود حليف له هو المقاومة الفلسطينية وهو يخوض المواجهة مع خصمه الداخلي «الجبهة اللبنانية» حينذاك. الأمر الذي تفتقر إليه، حتى الآن على الأقل، قواعد اللعبة والصراع السياسي الحاد الناشب بين قوى 14 آذار والمعارضة. ليس أمام جنبلاط عدو وجهاً لوجه يريد الحرب معه، ولا حليف لديه يقوى به على هذا العدو.