جان عزيز
رغم التطورات الحادة المسجلة في اليومين الماضيين، أو ربما بسببها، تعود أنظار قسم كبير من المسيحيين لتتجه إلى بكركي. إذ يعتقد هؤلاء أن البطريركية المارونية، أيّاً كان أشخاصها ومهما كانت أهواؤهم وسلوكهم الذاتي أو العام، تظل هي حارسة الهيكل اللبناني. وتظل كذلك في المسائل الأساسية والمصيرية التي قد تهدد وجود الكيان ومستقبله.
وبالتالي قد ينتظر المسيحيون من بكركي موقفاً من كلام الحرب المندلع أخيراً، ومن تهديدات البكاء دماً والمشانق والصواريخ الداخلية وإحراق الأخضر واليابس. لكنهم يعرفون أن هذا الموقف قد لا يأتي، أو قد يجيء متأخراً أو مخفَّفاً، أو في كل الأحوال من دون جدوى.
وقد ينتظر المسيحيون موقفاً بطريركياً مماثلاً، منسجماً أولاً وأخيراً مع مواقف بكركي السابقة، بدءاً بمشروعية المجلس الحالي، مروراً بحقيقة ميثاق العيش المشترك المطلوب، وصولاً إلى دور السلطة الحالية في «هدم شراكة الحياة»، كما قال أساقفتها في 4 تموز الماضي، «كيف تقضي فئة على فئة ودين على دين؟».
ينتظر المسيحيون الكثير من الصرح هذه الأيام، لكنهم يدركون تمام الإدراك أن انتظارهم سيظل عقيماً. ويشاركهم في هذا الاقتناع الكثير من أبناء كنائسهم وأحبارهم، الذين يضجّون بصمت ويلتزمون الصلاة.
غير أن مسألتين اثنتين، قد لا يستطيع المسيحيون السكوت عن اللاموقف البطريركي حيالهما، وهما التوطين وقانون الانتخاب، نظراً إلى التطورات الخطيرة والمستورة على مستوى القضيتين.
ففي التوطين، قد لا يكون كلام الرئيس الأميركي جورج بوش من إسرائيل في 13 كانون الثاني على تعويض اللاجئين الفلسطينيين لقاء حرمانهم حق العودة أقل خطراً من وعد بلفور في تشرين الثاني 1917. لكن الأهم في هذه المسألة، هو ارتباطها بموقف صريح كان قد أعلنه البطريرك الماروني في الأول من حزيران سنة 2007، حين قال «إن هناك فريقاً (في لبنان) يرفض التوطين من الأساس، فيما هناك فريق آخر لا يمانع».
وخطورة هذا القول متلازمة مع سلسلة طويلة من الأسئلة المنبثقة منه. فعلى سبيل المثال، هل الفريق اللبناني الذي «لا يمانع» في التوطين، هو نفسه الفريق السياسي الذي يبدو البطريرك من حيث لا يريد أو لا يدري، مؤيداً له؟ وهل الفريق الذي «يرفض التوطين من الأساس»، هو من تحوّل أخيراً إلى موقع المتساجل معه يومياً، في شكل حاد ومستغرب؟ وأي دلالات فعلية ومستقبلية لهذه الصورة؟
ثم هل لهذه الثنائية، بين رافضي التوطين واللاممانعين فيه، علاقة بالانقسام السياسي الحاصل اليوم، حيال الاستحقاق الرئاسي والحكومة المقبلين؟ وهل لكل ذلك علاقة بجولة بوش الخليجية الأخيرة، و«المناورات العسكرية المشتركة» الحاصلة في دولة خليجية، تحت عنوان ضرب منظمة إرهابية كبيرة؟ وهل لهذه المناورات والخلفيات علاقة مباشرة بلهجة التهديد المتولّدة فجأة في بيروت؟
ينتظر المسيحيون من بكركي لجهة هذه المسألة أولاً، أن يعلن سيدها صراحة وبالاسم، أنّ مَن لا يمانع التوطين في لبنان، ليتصرفوا هم، إن لم يفعل هو، انسجاماً مع تلك الحقيقة.
أما لجهة قانون الانتخاب، فتبدو الإشكالية مماثلة. ذلك أنه منذ عام 1992 مثّلت هذه القضية موضع شكوى مسيحية، وبطريركية دائمة. وتذكر أدبيات بكركي المكتوبة والموثّقة أنه غالباً ما كان الخلل في هذا القانون وانتهاك ميثاق العيش المشترك بواسطته، يلقيان مناصفة على الوصاية السورية وتركيبتها اللبنانية. حتى كان الجلاء السوري، ليكتشف كثيرون أن تلك المعادلة كانت مغلوطة. فمسؤولية الخرق كانت كاملة على كل من الطرفين. المهم أن بكركي ظلت متمسكة بشكواها، رافعة في وجه الجميع مطالبتها بدوائر انتخابية على أساس القضاء. كان بعض الدراسات ينصح بصيغ أخرى، وكان بعض الباحثين قد أنجز تقسيمات أكثر مثالية. لكن سيد الصرح كان جازماً: القضاء.
فجأة، في الاجتماع الشهري الأخير لمجلس المطارنة الموارنة في السادس من الجاري، قيل إن هذا الحسم تراجع. حتى إن ثمة معلومات تؤكد أن هذا الاجتماع شهد بحثاً في صيغ أخرى، واقتناعاً أو شبهه، بالتخلّي عن القضاء دائرة انتخابية، لمصلحة صيغ أخرى لم تتّضح بعد، وإن كان معظمها يتضمّن تبنّي مبدأ نسبية الاقتراع.
قد يكون التبديل في الموقف صائباً. لكن السؤال يظل واجباً: هل يؤدي ذلك إلى إمرار صيغة مسوقة من الفريق نفسه الذي يبدو أقرب إلى بكركي التي لم يعلن سيدها بعد، إذا ما كان الفريق نفسه هو من «لا يمانع» في التوطين.
في النهاية، تغيير الموقف السياسي أمر طبيعي وسليم، شرطه الوحيد أن يكون تطوّراً لا تخلّفاً. ولسيد بكركي أكثر من سابقة في هذا المجال، أبرزها يوم أعلن من سيدني في أوستراليا يوم 7 تشرين الثاني 1993، أنه سيتقاعد عندما يبلغ الخامسة والسبعين من عمره، أي في أيار 1995، حفاظاً منه على نظام الأساقفة، كما قال يومها.