strong>عمر حبيب
•سكنتها «العفاريت» فحرمت نساءها من إنجاب الذكور

«وطى صفرتا» هو اسم لقرية كانت تقع في قضاء البترون و... زالت. فقد «استطاعت» نسوة تلك القرية القيام بما عجز عنه غزو عام 1310 وزلزال عام 1914، إذ أدى توقّفهن عن إنجاب الذكور إلى محو تلك القرية من خريطة الشمال

نشأت القرى اللبنانية، بمعظمها، بالطريقة عينها. أشخاص «يستوطنون» أرضاً، يستصلحونها، يبنون داراً للعبادة. تكبر العائلات، يتّخذ التجمّع الجديد اسماً ويصبح قرية... وهكذا.
لكنّ لبنان نادراً ما شهد هذه العملية معكوسة: أن تنتهي قرية؟ حتى الهزّات الأرضية التي أصابت المناطق المختلفة لِما شكّل لاحقاً دولة لبنان لم تستطع أن تدفع بأهل بلدة لبنانية إلى هجرها نهائياً، كذلك لم ينجح في ذلك التهجير الميليشياوي ولا الهجرة، داخلية كانت أو خارجية...
الأمر مختلف مع «وطى صفرتا». هذه القرية كانت تقع في قضاء البترون على ارتفاع 400 متر عن سطح البحر، وعلى مسافة 70 كلم من بيروت و... زالت.

دير «مار أصيا»

في عام 680، تمّ بناء دير «مار أصيا» في بقعة واقعة بين قريتَي عبدللي وجربتا، تشرف على وادي حربا (وادي الخراب بالسريانية) الذي يفصل بين محافظتي جبل لبنان والشمال، عند التقاء قضاءَي جبيل والبترون. كان الدير التابع للرهبنة البلدية مركزاً للتعليم، الديني بمعظمه، ويحوي، على ما يُروى، مكتبةً غنية. وكان طلاب العلم يقصدونه من المناطق البعيدة والقريبة، كذلك ضمّ 200 غرفة للرهبان.
بعد أن ينهي الراهب علومه هناك، أو فترة إعداد ضرورية، كان ينزل إلى وادي حربا، «يختار له محلاًّ، يبني فيه صومعة، ثم يخرج من الدير حافياً حاملاً قصعة من خشب وزناداً (قداحة) وإبريقاً من فخار مملوءاً زيتاً». (من كتاب للخوري يوحنا بصبوص باني دير ما يوسف ـــــ جربتا). وكان الناس يطلقون الأسماء على مكان وجود الصومعة على أساس اسم الراهب الناسك، مثل عين مار يوحنا، أو نبع مار سمعان، أو ضهر مار شليطا... وكانت بعض الصوامع حصينة لدرجة أنه كان يصعب الوصول إليها من دون استخدام سلّم أو ما شابه.
وبعد أن بنى الناس منازل هناك، وصارت القرية قرية، أُطلق عليها اسم «وطى صفرتا»، و«صفرتا» من السِّفْر، والاسم الكامل يعني بالسريانية «مقرّ العلماء والكتّاب والكتب».
في عام 1310، تمّ تدمير دير مار أصيا خلال إحدى الغزوات، لكن كنيسة بالاسم نفسه بنيت على أنقاضه. واستمرت الحياة في القرية.

«عفريت» في القرية

في نهاية القرن التاسع عشر، بدأ الحظ العاثر يلاحق أهل القرية. فقد باتت النسوة، كما يُشاع في المنطقة، لا يلدنَ إلا إناثاًتقول صونيا نون من قرية جران المجاورة، نقلاً عن أحاديث الكبار، وعن حماتها أنيسة بنت مريم بنت طنوس أنطون من وطى صفرتا، إن سبب ذلك كان في اعتقاد الناس في ذلك الوقت أن مار أصيا كانت «عينه ضيّقة». ويضيف زوجها، فارس حنا عقل، أن الشائع في المنطقة كان، وما زال بالنسبة إلى البعض حتى اليوم، هو وجود «رَصَد»، أو عفريت، يعيش في القرية وحولها. وجهه يشبه وجه «التيس»، يخيف الناس مولولاً أثناء الليل، ومرعباً المارين عند المنعطفات وعلى الصخور من خلال ظهوره المفاجئ والتلويح بيديه وإطلاق الأصوات الغريبة... كان يرغب في القضاء على هذه القرية، لأنه لا يعيش إلا على الخراب والجهل، فراح يساعد قوى الطبيعة على هدم القرية وإخلائها لكي يسيطر هو على المنطقة، حسبما درج الناس على الاعتقاد.
كان من عائلات وطى صفرتا أنطون وطنوس وملحم والجزّار وطربيه. لكن عدد أفرادها راح يتضاءل شيئاً فشيئاً، فقد صارت الفتيات يتزوّجن شبّاناً من القرى المجاورة، بفعل الانعدام الكامل لولادة الشبان الذكور في القرية.
من تلك الفتيات مثلاً محبّة طنوس أنطون زوجة سليم عقل، جدة رئيس جمعية المصارف والرابطة المارونية لأمه، جوزف طربيه. أخواتها فَيّ ومجدلية ومريم كنّ آخر الفتيات الراحلات عن القرية، تزوّجن في القرى المجاورة، جران وكور وغوما.

زلزال 1914

في عام 1914، أصاب القرية تدمير شديد بفعل الزلزال. لم يُعد الناس جميعاً بناء منازلهم. ومن الأخبار المعروفة عن القرية، والتي يتداولها أبناء قريَتي جران وغوما المجاورتين أن وردية طنوس أنطون كانت في أحد الأيام تستقبل ضاهر بو حيدر من غوما ومرافقين له، وقد اعتاد أن «يلفي عليها» بهدف الزواج، وكانت آخر من بقي من عائلتها. وقع الزلزال وفرّ الحاضرون إلى الخارج. بعد الهدوء، دخلوا إلى المنزل المهدّم وأنقذوا ما استطاعوا من المتاع. اصطحبوا وردية إلى غوما، تزوجها ضاهر، وبقيت هناك فيما أقفل منزل العائلة نهائياً.

حنّا ونزهة

أما آخر مغادري القرية، حوالي عام 1958، فكان حنا فارس وزوجته نزهة. وحنا من قرية معاد في قضاء جبيل، تزوج نزهة بنت حنا طنوس، وهي ابنة عمّته فوتين، وصار «صهر بيت». كان بيت حنا طنوس مفتوحاً دائماً، فيه الخير الكثير، يزرع أهله القمح والبقول، يستقبل المكارية ويستضيفهم. فعل «الرَصَد» فعلته، فلم يُرزق العروسان بأي ولد. رحل أهل الوطى جميعاً، وبقي الزوجان وحيدين.
يقول كاهن جران الخوري أنطون أبي سعد، إن وكيل دير مار يوسف (دير القديسة رفقا)، الراهب سمعان اسطفان، كان يقيم القداس للزوجين وحدهما، في كنيسة القرية، في الخامس عشر من تموز من كل عام، والذي يقع فيه عيد مار أصيا.
عاش الزوجان وحدهما في القرية لما يقارب خمسين سنة. لم يكونا يستأنسان إلا ببعض الرعاة الذين كانوا يتخطون الخوف من العفاريت، فيرعون مواشيهم في الوطى. وقد أخبر حنا في ما بعد أنه وزوجته كانا يتجادلان أحياناً، فكانت نزهة تشير إلى صورة والدها المعلقة على الجدار، مهددة زوجها بشاربيه المؤثّرين، مذكّرة إياه بأنها بنت حنا طنوس القبضايفي أحد الأيام، وبعد نقاش بينهما، طفح الكيل، فتناولا صورة العرس، قسماها إلى قسمين، أخذ كل منهما القسم الذي يظهر فيه، ورحلا كلّ في طريقه. توجّه حنا إلى قرية تحوم وعاش عند ابن أخته الذي هو اليوم ضابط متقاعد في الجيش اللبناني. بقي هناك إلى أن مات حوالي سنة 1960 عن عمر يناهز 100 عام.
أما نزهة، فيقول الخوري أنطون: «أذكر أني رأيتها تمشي على الطريق هنا في جران، آتية من الوطى، تحمل مظلة تحميها من المطر المتساقط، و«بقجة» تحوي بعض أغراضها، وحصتها من صورة العرس. لاقاها شاهين حنا عقل من جران، وساعدها على السير».
انتقلت نزهة من هناك إلى قرية صغار لتعيش عند ابن أختها يوسف اسطفان الذي كان مختار صغار ووطى صفرتا في الوقت نفسه.
يخبر بعض أهل المنطقة أن يوسف ورث أرضاً في الوطى عن خالته نزهة، لكنه عاد ووهبها لدير مار يوسف بعد أن توفيت ابنته ذات الثلاثين عاماً، لأنه رأى أن كل ما يتعلّق بالوطى «منحوس». في ما بعد، عادت نزهة إلى زوجها في تحوم، حيث ماتت بعد سنتين، وقد تخطّت بدورها التسعين عاماً من العمر.
واليوم، بعد أن باع الوارثون على مدى السنين مجموع أراضي القرية لدير مار يوسف، ووهبها البعض الآخر له، باتت وطى صفرتا بقعة مهجورة، يشهد عليها عدد من المنازل وأطلالها، وسنديانات عتيقة، وأشجار زيتون صارت برية... وبعد زوال القرية، ظلّ أشخاص عديدون يترددون إلى كنيستها (قبل أن تباع الأرض) على أساس شائعة تتحدث عن كنز مدفون هناك...
يبقى أن عين وطى صفرتا ما زالت هنا، وماؤها ما زال يجري.



«أملاك خاصة»

لم يعد الوصول إلى كنيسة «وطى صفرتا» الجميلة، ولا إلى بيت آخر المقيمين فيها حنا طنوس ممكناً.
فقد اشترى أحد المتموّلين «البيروتيين»، وهو السيد جوزف مسعود، منذ بضع سنوات مساحة كبيرة من الأرض في المنطقة، وشقّ طريقاً يصل إلى حيث بنى منزلاً فخماً وأقام مشاريع زراعية، بحسب ما يقول أهل المنطقة. ونبتت في وسط البرية بوابة حديثة عليها لافتة تمنع المرور وأخرى تنبئك بأن المنطقة «أملاك خاصة».
عندما بدأ مسعود بشراء الأرض، نصحه كثيرون بعدم التفكير في السكن هناك، لأنه «لا ذكور يولدون هنا». فأجاب بأن لديه ثلاثة صبيان، وأنه لا يفكّر بإنجاب المزيد.
وبحسب فارس عقل من جران، فقد طلب مسعود من البطريركية الإذن بترميم الكنيسة القديمة وتكبيرها، لكن طلبه رُفض.