نقولا ناصيف
بعدما انحسرت في الساعات الأخيرة موجة التشنج السياسي والتهديد المتبادل بين الموالاة والمعارضة على أبواب إحياء الذكرى الثالثة لاغتيال الرئيس رفيق الحريري غداً الخميس، بدا ما حدث في عطلة نهاية الأسبوع أشبه بالصور الأولى المحفوظة في الذاكرة القديمة عن خوف الأطفال الذين يصرخون بأعلى صوتهم في الغابة أو في مكان مظلم، اعتقاداً منهم بأن خطراً أو تهديداً ما ينتظرهم. ولا يعدو صراخهم عندئذ أن يكون محاولة لطرد الخوف من قلوبهم، وفي أبسط الأحوال لتخويف الغول أو الوحش أو التهديد المفترض أنه سيقبل عليهم وهم لا يرونه.
على نحو كهذا صرخ أركان الموالاة والمعارضة على السواء في الأيام الثلاثة المنصرمة، بأعلى أصواتهم، وهم يتبادلون التهديد من أجل أن يخوّف أحدهم الآخر، لكن من غير أن يصدّق هو هذا التخويف، وكي يطرد أيضاً الخوف من قلبه. مع ذلك حملت أحداث الأسابيع المنصرمة أكثر من قلق، إلى أن بلغت ذروتها الأحد الماضي مع قرع طبول الحرب قبل أن تتراجع موقتاً: ظهور أكثر من ألف مسلح في طرابلس إبان تشييع الرائد وسام عيد، حركات الاحتجاج المتنقل بين التخوم السنّية الشيعية في البسطة ونفق سليم سلام، والخلاف على رفع صور للرئيس الراحل أو إعادتها بالقوة، ثم انتقال الاحتجاج إلى مار مخايل بين تخوم شيعية ـــــ مسيحية، إطلاق نار مستجد ومتكرّر في كل مرة أطل رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري على التلفزيون أسوةً بما يرافق الإطلالات المماثلة للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، إطلاق نار على منزل رئيس المجلس نبيه بري، إطلاق نار ليلي متفرق وإلقاء قنابل صوتية وممارسات مشابهة تجاوزت الحدود المألوفة حتى الآن في إدارة الصراع السياسي بين قوى 14 آذار والمعارضة. وهي أحداث جعلها تزامنها مبعث قلق لاقترانها بمعطيات:
1 ـــــ محاولة تفكيك توازن القوى الساري منذ أكثر من سنة بين طرفي النزاع وتعريضه لخلل الاضطراب، والانتقال بالسجال السياسي إلى الشارع من خلال ردود فعل أكثر خطورة تصل إلى التهديد بالحرب. كان قد أرسي توازن القوى هذا بعدما اكتفت قوى 14 آذار باستقالة الوزراء الشيعة الخمسة في 11 تشرين الثاني 2006، واكتفت المعارضة بالاعتصام في وسط بيروت في أول كانون الأول. لا الأولون قبلوا الاستقالات، ولا الأخيرون هاجموا السرايا. ثم أتت تباعاً أحداث 23 كانون الثاني 2007 ثم 25 منه لتكرّس الأمر الواقع الجديد برعاية إقليمية، لا تجعل فريقاً يرجّح كفته على آخر. وهكذا تبادلت الموالاة والمعارضة جولات المواجهة السياسية التي حافظت على توازن قوى أبقى الشارع في منأى عن الاشتباك السياسي بينهما حتى عند شغور رئاسة الجمهورية، من غير أن يكون في وسع أحدهما قلب الطاولة على الآخر، أو حسم الصراع لمصلحته.
2ـــــ بين القوى السياسية المتصارعة أربع تورّطت في الحرب الأهلية وانتظمت وراء خطوط تماسها وخبرت حرب الشوارع فيها ونتائجها هي: الرئيس نبيه بري والرئيس أمين الجميل والنائب وليد جنبلاط وسمير جعجع، واثنتان لم تعرفاها، هما حزب الله ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري. تالياً فإن الأخيرين هما الأقدر الآن على الانزلاق فيها ما دام كل منهما يمثل واجهة التحالف السياسي الذي يتحرّك من خلاله، وكلاهما يجد نفسه يقود مشروعاً سياسياً مناوئاً للآخر ويحتاج إلى أن ينتصر عليه ـــ وإن بالقوة ــ لإسقاطه. وهما وحدهما الواقفان على تخوم صراع مذهبي سنّي ـــــ شيعي عند أول زلة سياسية خطيرة. بل هما أيضاً الوحيدان القادران على تمويل حرب أهلية، واحدهما بالسلاح والآخر بالمال، وهما العارفان مغزى انسياقهما إلى تشنّج مذهبي خطير يحملهما إلى فتنة قد لا يكون في وسعهما السيطرة عليها.
وقد تكون الرسالة التي تبادلاها بالواسطة قبل أيام عبر مسؤولين أمنيين نافذين لدى كل منهما، على أثر خلاف على نزع صورة للرئيس الراحل في البسطة، خير معبّر عن طريقة تفكير كل منهما عند مواجهة قطوع خطر ذي بعد مذهبي. كانت العبارات التي تولى المسؤولان الأمنيان النافذان نقلها بين الجهتين حادة في مضمونها، وتنطوي على تحذيرات وتحميل وزر المسؤولية.
3ـــــ لم تعد أرقام الحشود بين قوى 14 آذار والمعارضة مقياس شعبية كل منهما ومقدرته على استقطاب غالبية الشعب اللبناني إلى خياراته السياسية، غير المنفصلة عن خيارات إقليمية قريبة وبعيدة. ومع أن الموالاة بعد حملة التجييش الأخيرة باتت مطمئنة إلى حشد مئات ألوف من المؤيدين والأنصار في ساحة الشهداء لإحياء ذكرى الحريري الأب، فإن الأعداد الكبيرة لم تعد الوعاء الملائم لاستخدامه في الموقف السياسي. فمشاركة أكثر من 300 ألف مؤيد لقوى 14 آذار لن تجعل هذا الفريق يتصلّب في رفض شروط المعارضة للتسوية السياسية أكثر مما فعله في الأشهر الأخيرة لمعرفته بالحدود القصوى لمقدرته على المناورة في اللعبة الداخلية. في المقابل فإن مشاركة 50 ألف مؤيد لن تحمل الموالاة على تقديم تنازلات إضافية لا تزال ترفضها، وإن بدا أن المعارضة تراهن عليها اعتقاداً منها بتهاوي التنازل تلو الآخر. وبسبب عدم تعويلهما على الأرقام التي مثّلت في السنتين الأخيرتين توازن ردع متبادلاً، انتقل طرفا النزاع إلى التخويف والتخويف المضاد على أنه مظهر جديد للردع المتبادل. ولا تعني حوادث إطلاق النار الليلية وتفلّت مظاهر مسلحة في عدد كبير من الأحياء، وخصوصاً البيروتية على التخوم السنّية ـــــ الشيعية إلا تأكيداً للتخويف الجديد. الأمر نفسه عكسه الهجوم السياسي الصاعق لحزب الله على القوات اللبنانية على أثر أحداث مار مخايل ـــــ الشياح في 27 كانون الثاني الماضي، الذي رمى إلى توجيه رسالة مباشرة إلى قادة الموالاة أكثر منها إلى القوات بالذات بغية تحذير هؤلاء القادة من استخدامها في مواجهة تيار الرئيس ميشال عون في الصراع المسيحي ـــــ المسيحي بين خيارات قوى 14 آذار والمعارضة. ورغم انطواء أحداث 27 كانون الثاني كي لا يبقى الجيش في واجهتها طرفاً رئيسياً فيها، إلا أنها أضحت محطة مثيرة للجدل والقلق والتحسّب على غرار جولتي 23 كانون الثاني 2007 و25 منه، حيث خطاب التهديد والتخويف المتبادل سيد الموقف، بينما المشكلة الحقيقية تقيم على خط الرياض ـــــ دمشق.