جاد نصر الله
إنّه أكثر شخصيّات «حزب اللّه» إثارة للجدل. قلّة علموا بوجوده. والذين سمعوا باسمه، لا يزيدون كثيراً. حتى بعض فريق عمله الأساسي لم يدرِ بهويّته الحقيقية.
وفي حين تبرق عيون المحازبين والمقاتلين لاسم السيد حسن نصر الله داخل جميع أُطُر الحزب، فإنّ الأبدان ترتعد لوقع اسم «الحاج»، حتّى في الأروقة والدوائر المغلقة لكبار ضبّاط المقاومة. نَدُر من رآه أو تكلم معه. ومن سنحت له الفرصة، فإمّا لم يدرِ بذلك أو فضّل الموت على الإفصاح عن السرّ الذي بات يؤرّقه في الليل والنهار.
يُعَدُّ عماد مغنيّة، بالإضافة إلى زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن ومالك أسرار القنبلة النووية عبد القدير خان، أحد أخطر ثلاثة رجال يدبّون على وجه الكرة الأرضية: بن لادن يمارس الإرهاب التقليدي عبر قتل المدنيّين وزرع الرعب في أرجاء العالم، وخان محكوم بالإقامة الجبرية في باكستان، فيما كان مغنيّة يتجوّل حرّاً طليقاً، يدرّب العقول الناشئة للتفوّق على أميركا وإسرائيل تحت شعار «لا شيء يستحيل»...
بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأميركية، تربّع مغنيّة على عرش «الإرهاب العالميّ». فهو متّهم بتصفية أكبر عدد من الجنود الأميركيين، قبل أن يحطّم بن لادن الرقم القياسي بتفجيره مركز التجارة العالمي في الحادي عشر من أيلول عام 2001، ليتقاسم وإيّاه المرتبة الأولى بخمسة وعشرين مليون دولار لكل من ينال من أحدهما. ولمّا كان كابوساً تهجس به إسرائيل في النهار قبل الليل، جرى إدراجه على رأس قائمة المطلوبين، ووضع الموساد اسمه تحت لقب «مريض الشخصية في الأمن الميداني».
لا مصادر فعلية تقودك إليه. في السؤال عنه مصاعب جمّة وتبعات كثيرة. هو «الثعلب» كما تعرّفه التقارير الاستخباريّة، باعتباره الحلقة الغامضة التي تربط حزب المقاومة بالجمهورية الإسلامية الإيرانية وسوريا، كما فصائل المقاومة المسلّحة في فلسطين المحتلّة. أمّا في دهاليز الحزب، فهو طيف أو «شبح»، يشكّ الكثيرون في وجوده ويده الطولى في نجاحات الحزب العسكرية وتقرير سياساته الاستراتيجية. حتى عدّه بعضهم أداة غير حقيقية اختُلقت لعدة أهداف، ليس أقلها دبّ الرعب في قلوب الآخرين.
تختلف الروايات حتى في أصوله ونشأته. «عماد فايز مغنية» اسم غير وارد في السجلات اللبنانية. صوره المعروفة والمتداولة قليلة جداً، ولا فائدة من نشر المباحث الفدرالية الأميركية «أف. بي. آي» لها، إذ إن أحدثها يرجع عشرين عاماً إلى الوراء في أقلّ تقدير.
يُحكى أن...
وُلد مغنيّة عام 1962 في قضاء صور، جنوب لبنان، وكان أكبر أخويه جهاد وفؤاد. مع انتقال العائلة إلى بئر العبد، انتظم في صفوف «فتح» ولمّا يبلغ الخامسة عشرة من عمره. تلقّى التدريب العسكري على يد قادتها حتى صار عضواًَ فاعلاً في الفرقة العسكرية الخاصة «القوة 17»، المكلّفة حماية قيادات الحركة كأبو عمّار وأبو جهاد وأبو إياد. وأسهم في نقل سلاح «فتح» إلى «حركة أمل» و«حزب الله» بعد أن اضطرّت حركة «فتح» إلى مغادرة بيروت، إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982.
وبعد حصار بيروت، الذي دام ما يقارب الثلاثة أشهر وخروج «فتح» ومنظمة التحرير من لبنان، انتقل للعمل في صفوف «حركة أمل»، قبل أن ينضوي تحت عباءة العلاّمة محمد حسين فضل الله، الأب الروحي لـ«حزب ديني» في مخاض الولادة من رحم ثورة الإمام الخميني: حزب الله. تولّى المرافقة الشخصيّة لفضل الله مدّة ثلاثة أعوام، إلى أن تسلّم أخوه جهاد مهمّة الجهاز الأمني عنه، لكنّه ما لبث أن ذهب ضحية محاولة الاغتيال التي استهدفت المرجع الديني في بئر العبد. تزوّج عماد في تلك الفترة من قريبته سعدى بدر الدين، وله منها ثلاثة أولاد، فاطمة (23 عاماً) ومصطفى (21 عاماً) وجهاد (17 عاماً).
يزعم البعض أنه انتقل وهو في العشرين من عمره إلى إيران للمرة الأولى، حيث قدّمه أنيس النقاش أوّل مرة بعد قيام الثورة في إيران إلى أحد مسؤولي السفارة الإيرانية في بيروت. وفي إيران وجد فرصته لإظهار مؤهّلات وإثبات كفاءات قتالية عالية مَيَّزته عن أبناء جيله. وبحسب قائد المنطقة الشمالية الإيرانية في تلك الحقبة، «أظهر عماد شجاعة واستعداداً للمشاركة في عمليات صعبة جداً خلف خطوط العدو».
تقول الروايات إنّه تولى منذ ما بعد الاجتياح الإسرائيلي مهمّة تأسيس حزب الله. لكنّ الشيخ صبحي الطفيلي، أحد مؤسّسي الحزب، يقول في برنامج «زيارة خاصة» على قناة «الجزيرة»، إنّ مغنيّة «لم تكن له علاقة بحزب الله حتى ما بعد التسعينيات. ربّما انتسب لاحقاً إلى حزب الله».
1982... كان عاماً ملتهباً. حفلت تلك السنة بالإنجازات التي قفزت بعماد إلى صدارة قائمة المطلوبين من جانب الولايات المتحدة وفرنسا. اتُّهم بأنّه قاد وخطّط لثلاث عمليات جعلت اسمه اليوم، وبعد مرور خمسة وعشرين عاماً، مطلوباً لدى اثنتين وأربعين دولة: تفجير السفارة الأميركية في بيروت في نيسان 1983 الذي أدى إلى مقتل 63 أميركياً ولبنانياً. تفجير مقر قوات المارينز على طريق المطار الذي أودى بحياة 241 جندياً، بالإضافة إلى تفجير معسكر الجنود الفرنسيين، الذي أدى إلى مقتل 58 مظلياً. فما كان من الرئيس الأميركي رونالد ريغان إلاّ أن وعد شعبه حينها بأنّ أميركا ستظل تلاحق مغنية ولو بعد مئة سنة. كلّ ذلك وعماد لا يزال في بداية عشريناته!
كان لا بد من التروّي قليلاً. التواري عن الأنظار ولملمة الصفوف، وإنضاج فرقة العمليات الخاصة بعد أن أتت النتائج أكثر ممّا توقّع. كلمة الفصل له الآن، وكل من حوله أصبح يؤمن به ويتحرّك رهناً لإشارته. يصفه شباب المقاومة بـ«أحد جنود جيش الإمام المهدي المخفيّين» حين يقاربون المسألة من منظور عقائدي. ليس في التوصيف استعارة أو دلالة أدبية، إنها حقيقة باتوا يؤمنون بها، ويعيدون أصولها إلى أهل بيت رسول الله، ويرون فيها استمراراً لعاشوراء، و«من علامات ظهور الإمام المهدي» (...). يروي أحد ضباط المقاومة إحدى زيارات الـ«حاج رضوان» لهم في الجنوب: «كنا نهابه. صدّقني إن لحضوره وقعاً أقوى من حضور السيّد حسن بيننا. توجهت إليه بالحديث قائلاً له إن بعضنا ربما يمازح السيد حسن بمخالفة تعليماته يوماً ما، أما هو فلا. مازحته بأن يمضي لي ورقة على بياض. أمسك القلم ووقَّع قائلاً: هذا توقيعي، فليتجرأ أحدهم على تزويره، وسآتي به ولو من الفضاء»!
مضى عامان ليعود عماد مغنية بعدهما ويقتحم الإدارة الأميركية مجدداً من دون استئذان؛ ظهر في قمرة طائرة «تي.دبليو.إيه» في مطار بيروت مع رفيقيه حسن عز الدين وعلي عطوي. احتجزها لأيام، اتهمه الأميركيون بأنه هو من أطلق رصاصة على رأس أحد جنود مشاة البحرية ورماه من النافذة على مرأى من العالم أجمع. نُسجت حوله العديد من الروايات التي يستحيل التأكد من صحتها وسبر أغوارها، منها أسماؤه المتعددة، وجوازات سفره المزوّرة ،والحديث عن عمليات تغيير الوجه التي خضع لها في عامي 1990 و1997، فأتت على تغيير ملامحه تماماً. وكذلك محاولات اعتقاله واغتياله وأهمها اثنتان: الأولى في تموز 1996 حين اعتقد الأميركيون أنهم استدرجوه إلى الخليج؛ شارك في العملية أكثر من 4000 جندي مارينز، بقيادة جون غاريت، وحوصرت مركبة «ابن طفيل» التي كان على متنها مغنية، وقد رُفع الحصار بأمر من بيل كلينتون من دون «معرفة السبب»، على حد تصريح غاريت. الثانية: حين نجا من الاعتقال وذلك بفارق دقائق، بعد معلومة وصلت إلى جهات أمنية عربية وغربية عن انتقاله في طائرة مدنية بين الخرطوم ولبنان. يومها قيل إنه كان هناك مجتمعاً مع أسامة بن لادن للتخطيط لعمليات كبيرة ضد الأميركيين. ولم يكن الأمر صحيحاً، رغم زعم المباحث الفدرالية انتزاعها لاعترافات مرافق بن لادن الشخصي بتنظيمه اجتماعات بين الاثنين في السودان مطلع التسعينيات، حيث قضى الاتفاق بأن يمد مغنية عناصر «القاعدة» بخبراته في قتل الأميركيين والإسرائيليين مقابل إمداد بن لادن له بالسلاح والمعدات الحديثة.
متى دوّى انفجار على كوكب الأرض، أول ما تتجه أنظار الحكومات والأجهزة الأمنية إلى عماد فايز مغنية. يدرسه الفاحصون كأول احتمال يجب الركون إليه. وإليه نُسب العديد من أعمال التفجيرات، ولم يعلُ صوت ينفي أو آخر يتبنى. يُشك في أنه من أردى السفير الفرنسي في بيروت، لوي دولامار، مطلقاً النار عليه، وأنه يقف وراء نسف السفارتين الأميركية والفرنسية في الكويت، بمساندة من «حزب الدعوة»، كما خطف طائرة كويتية في 1984 وقتل أميركيين كانا على متنها قبل هبوطها في طهران، وكذلك تفجير السفارة الإسرائيلية والمجمع اليهودي في بيونس آيريس رداً على اغتيال الأمين العام لحزب الله السابق السيد عباس الموسوي. كما ورد ذكره في حادث نسف السفارتين الأميركيتين في كينيا وتنزانيا عام 1998. تركيا أيضاً تتّهم مغنية، واسمه هناك «عمات آغا»، بترتيب الانفجارات التي استهدفت المصالح البريطانية في 20 تشرين الثاني 2006.
توارى مغنية في التسعينيات عن مسرح الأحداث، فحيك الكثير عن كيفية تمضيته للوقت. وحين نُسب إليه أيضاً ضلوعه في تفجير مجمع الخُبر، الذي ذهب ضحيته تسعة عشر أميركياً عام 1996، كانت تلك الإشارة الأقوى بالنسبة إلى أميركا على التبادل الاستخباري الحاصل بينه وبين تنظيم «القاعدة».
عبثاً جهد جهازا الشاباك والموساد في اختراق «حزب الله» للوصول إلى الكابوس الذي يؤرّقهما: عماد مغنية. مع العلم أن إسرائيل نجحت في اغتيال أخيه القيادي في المقاومة فؤاد عام 1994 في عمق الضاحية الجنوبية، عبر وضع متفجرة كان المقصود بها توجيه رسالة إلى الشقيق الأكبر. وتولّى تنفيذ الجريمة يومها عميل هو أحمد الحلاق الذي عادت المقاومة واستدرجته بالتعاون مع مخابرات الجيش اللبناني من قرى الشريط الحدودي المحتل، وسُحب إلى بيروت، حيث أُخضع للمحاكمة وأُعدم في سجن رومية.
أذكر أنه في 22 أيلول 2006، وفي مهرجان النصر الإلهي، كنت أحاول اجتراح وسيلة للتسلّل إلى المنصة لكتابة شيء عن جهاز أمن نصر الله وتصرّفه في حضور السيّد، وخصوصاً بعد عدوان تموز. لم أفلح. ذهبت إلى المكتب الإعلامي لأطلب إذناً عادياً بالدخول. كان هناك رجل أفطس الأنف مربوع القامة يلبس نظارات سميكة، يجادل مراهقاً في التعبئة في أهمية الالتزام بالمهمة الموكلة إليه. تقدم مني على حين غرّة، قائلاً: «موسيو (أستاذ) جاد، شو بقدر ساعدك؟». فاجأتني معرفته باسمي:
ــــ أريد الحصول على إذن بالدخول إلى منصة الصحافيين.
أرسل شاباً بصحبتي، وقال: «أدخله إلى المنصّة الرئيسية قرب السيد نصر الله، وإن واجهتك المشاكل، قُل لهم إن الحاج قد أرسلك».
كنت قريباً جداً من سيّد المقاومة في الاحتفال، ولم أدرِ أنّني صافحت قائدها العسكري حتى البارحة.