strong>وفاء عواد
«جرحنا نبض السلاح» و«هيهات منّا الذلّة»... لافتتان توزّعتا مجمع سيّد الشهداء في الرويس... وصورة شهيد المقاومة عماد مغنيّة كانت الحاضر الأكبر، بعد طول غياب.. وحدها والدة الشهيد التي لم ترَ جسده يلبس الدم رفضت حمل صورته المطبوعة على الورق، و«شو بيتغيّر إذا حملتا.. ما هوّي بقلبي عطول مع الشهيدين جهاد وفؤاد».
عشرات الآلاف خرجوا وراء سيرته المقاوِمة إلى هجعته الأخيرة، والقلائل منهم تسنّى لهم يوماً أن يعرفوه. توافدوا فضاقت بهم جميع المداخل المؤدّية إلى المجمع، ولم تمنعهم الأمطار الغزيرة التي تساقطت من المشاركة في يوم الوفاء لمن كانت له المساهمة الفعليّة في صنع المجد العسكري للمقاومة، متعاقداً مع الاستشهاد منذ 25 عاماً، فاختار بملء إرادته أن يكون رجل الظلّ الذي ما سمع الإعلام صوته مرة واحدة. فكثيراً ما نام على الرماد لكي يهيّئ الجمر، وإذا به يسطع إلى الضوء من بوّابة الاغتيال الذي طارده إلى دمشق.
لحظات مثقلة بالصمت، لم تخرقها من وقت لآخر سوى موسيقى نشيد الشهيد وهتافات اقتضتها قدسيّة المناسبة. ويعتلي عريف المهرجان المنصّة التي استقرّ فوقها نعش الشهيد الذي لُفّ بعلم «حزب الله»... يعلو صوت العريف: «القاتل نعرفه. لقد ملّت بنادقنا احتباس رصاصنا. فإن تأمرنا، ملأنا الكون غضباً. لن نسقط الراية، فنحن حاضرون، لن يموت الحاج رضوان، ولن يموت السلاح». فيكون الجواب على قدر الوعد: «لبّيك نصر الله».
أم عماد تقرأ سورة الفاتحة، تجول بنظرها صامتة في كل العيون التي وحّدتها دموع الفراق والاعتزاز في آن. يطلّ السيّد حسن نصر الله من على الشاشة العملاقة، فتكفكف أم الشهيد دمعات خجولة سالت على خدّيها، لتصغي باهتمام متمتمة: «الله يحميك».
وكان محيط مجمع سيّد الشهداء قد غصّ، منذ ساعات الصباح الأولى، بالوفود الشعبية التي تقاطرت إليه، واكتمل المشهد بالحضور السياسي الذي تقدّمه وزير خارجية الجمهورية الإسلامية الإيرانية، منوشهر متّكي، ممثلاً الرئيس محمود أحمدي نجاد، النائب علي حسن خليل ممثلاً الرئيس نبيه برّي، الأمين العام للمجلس الأعلى السوري ــــ اللبناني نصري خوري، السيّد علي فضل الله ممثّلاً المرجع السيد محمد حسين فضل الله، مدير مكتب المرجع علي السيستاني حامد الخفاف، إضافة إلى جمع من النوّاب والوزراء الحاليين والسابقين، سفراء بعض الدول في لبنان، وشخصيات عسكرية وحزبية وإعلامية وتربوية.
متّكي
وكانت مراسم التشييع قد استُهلّت بكلمة ألقاها الوزير متّكي، قدّم فيها التعازي لقيادة «حزب الله» ولجميع من يرثون المقاومة والشهادة، بالنيابة عن الشعب الإيراني وقيادته، باستشهاد «القائد الفذّ من قادة مقاومة الـ33 يوماً»، مؤكّداً أن «الشهداء سيبقون خالدين في ذاكرة الأجيال»، وخاصّاً «أعداء الحرية وأعداء الشعوب المقاومة» بالقول: «إن سماء الشعوب المقاومة مليئة بالنجوم والكواكب».
بعد ذلك، تلا متّكي برقية تعزية بعث بها الرئيس الإيراني إلى السيد نصر الله، وفيها أشاد بالشهيد الذي «سقط على الأرض كشجرة شامخة شجاعة، من نسل الشجعان ومن جيل الشجعان»، فـ«كان ابناً بارّاً وغيوراً من صلب الأمتين العربية والإسلامية، ومقاتلاً صنديداً مدافعاً عن استقلال لبنان ووحدته، ومحافظاً على عزّة وشرف شعوب المنطقة، ومفخرة للمؤمنين»، مضيفاً: «إن كل من يدافع عن الإيمان والطهارة وحقوق الشعوب، سيبغضه اللصوص والمحتلّون والناهبون الدوليّون والقتلة المحترفون، الذين يهربون من مواجهة الرجال الأبطال، ويقدمون بمنتهى الدناءة والجبن على اغتيالهم».
وإذ رأى أنّ شهادة مغنيّة «وصمة عار أخرى على جبين الصهاينة الجبناء وحماتهم»، أكّد نجاد أن «الجرائم لن تعوّض هزيمتهم النكراء أثناء العدوان على لبنان»، فـ«هم فقدوا أسس وجودهم، ولن تؤدّي جرائمهم سوى إلى تقصير حياة كيانهم المليء بالخبث والفساد، وسيقعون في قبضة العدالة عاجلاً أم آجلاً».
وفي ختام مراسم التشييع، صُلّي على جثمان الشهيد، قبل حمل نعشه على الأكفّ إلى مثواه الأخير في مدافن روضة الشهيدين، حيث ووري في الثرى، على وقع الهتاف «الموت لإسرائيل.. الموت لأميركا»، والكثير من الدموع التي اقتضاها فعل الفراق.
الوفود الشعبيّة
وفي إطار المشاركة في تشييع الشهيد مغنيّة، أفاد مراسل «الأخبار» في الجنوب، عسّاف أبو رحّال، بأن أهالي القرى لبّوا دعوة «حزب الله» للمشاركة. ففي مرجعيون، سُجّلت مشاركة لافتة بدأت مع ساعات الصباح الأولى، حيث سُجّل عند مثلث «تل النحاس» عبور عشرات الحافلات والفانات ومئات السيارات التي أقلّت المشاركين الذين رفعوا أعلام «حزب الله». كما سجّل يوم أمس مشهد آخر في قرى حاصبيا والعرقوب، تمثّل بمشاركة متدنيّة جداً قياساً بمناسبات مشابهة، لأسباب عائدة إلى الطقس العاصف والمثلج الذي شهدته القرى الجبلية من جهة، أو إلى حال التخوّف من الحالة الأمنية.
وعلى الحدود الجنوبية، كانت حالة الاستنفار بادية على قوات الاحتلال خلف الشريط، فسُيِّرت دوريات مؤلّلة على امتداد الخط الأزرق في منطقة القطاع الشرقي ومنه صعوداً نحو مزارع شبعا المحتلة، حيث بدت بعض المواقع الأمامية في الضهرة والحماري ومحيط الغجر ومغر شبعا في حال استنفار.
ومن الجنوب، أيضاً، أشارت آمال خليل إلى أن الحشود الصفراء طغت على ما عداها، حيث زحف الآلاف من الجنوب إلى الضاحية الجنوبية للمشاركة في تشييع شهيد المقاومة الذي يعرف قراهم «كما يعرف خطوط كفّه». وبالإضافة إلى مظاهر الحداد والإقفال العام الذي التزمته المؤسسات التجارية والأسواق، ومجالس العزاء التي عقدت في المساجد، وخصوصاً في بلدة الشهيد طيردبا (قضاء صور)، كان الزحف الجنوبي البشري باتجاه بيروت قد انطلق منذ الصباح الباكر، وسط إجراءات أمنية مشدّدة.
ومن البقاع، أفاد مراسل «الأخبار»، رامح حميّة، بأن مآذن جوامع قرى بلدات غربي بعلبك ومكبّرات حسينيّاتها نعت الشهيد عماد مغنية، وتليت عن روحه آيات من القرآن الكريم منذ الصباح الباكر، كما أُقفلت المحال التجارية والثانويات والمعاهد الرسمية والخاصة، في حين لم يردع الطقس العاصف بعض الأهالي من تلبية دعوة المشاركة في تشييع الشهيد في الضاحية الجنوبية.
الفصائل الفلسطينية
ورأى رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» خالد مشعل، أمس، أنّ إسرائيل باغتيالها الشهيد عماد مغنيّة، أرادت «استعادة هيبة جيشها». وقال مشعل في حفل عزاء لمغنيّة أُقيم في مخيم اليرموك الفلسطيني في العاصمة السوريّة دمشق، إنّ إسرائيل أرادت من هذا الاغتيال «أن تستعيد هيبة جيشها، وهذا هو أسلوبها. وجيل اليوم لا يعيش الذكريات القديمة لأنّ جيشكم محصور في جيلين، والجيل الجديد يرى الطفل الفلسطيني يتحدّى الدبابة الإسرائيليّة».
وتابع المسؤول الفلسطيني «نحن نقبل التحدّي ولا نخاف، قمتم باغتيال بعض القيادات الكبرى، وجاءتكم أجيال مصرّة على طريق المقاومة فلا تفرحوا برسالتكم». وعن التهديد الإسرائيلي بتصفية قادة المقاومة في فلسطين ولبنان، خاطب زعيم الحركة الإسلاميّة بالقول «لا نخاف الوعيد والتهديد، والشهادة لا تزيدنا إلّا عزماً وإصراراً على المقاومة التي ترعبكم ومن خلفكم لأنّ رسالتكم باطلة ومجحدة».
بدوره، أشار الأمين العام لحركة «الجهاد الإسلامي»، رمضان شلّح في المناسبة نفسها، إلى أنّ «مسيرة الجهاد ستكون الرسالة التي نتحرّك فيها لأنّها رسالة عظيمة، وعماد مغنية هو أحد هؤلاء الرجال الجهاديّين لأنه شهيد فلسطيني أكثر من الفلسطينيّين».
وحضر حفل العزاء الأمناء العامّون للفصائل الفلسطينية التي تتّخذ من دمشق مقرّاً لها، وهم، إضافة إلى مشعل وشلّح، الأمين العام للجبهة الشعبية ـــــ القيادة العامة، أحمد جبريل، ومسؤول الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الشتات، ماهر الطاهر، ورئيس حركة «فتح الانتفاضة»، أبو موسى، إلى جانب القيادي في حزب الله، حسن حدرج.