أنسي الحاج
حين نسارع، هرباً من أنفسنا، إلى الاحتماء تارةً بالجمال وطوراً بالفنّ، مدافعين بأنهما البرهان الكافي ضدّ اليأس، ماذا نفعل غير الصراخ في وحشة الظلام؟ وهل نحن غير أطفال متروكين لخيالهم في الظلام؟

فجر هذا اليوم 14 شباط 2008 ثلاثة أخبار: الاحتفال بذكرى استشهاد رفيق الحريري، اغتيال عماد مغنيّة، إعادة تحريك قضيّة الرسوم الدانماركيّة الساخرة من الإسلام.
في قصّة الحريري عبثيّة حكاية الكفاح. في قصّة مغنيّة عبثيّة التحصّن. في قصّة الرسوم عبثيّة التاريخ... وفي كلّ من هذه الحكايات حكايات لا ينضب تعزيزها للعبثيّة من مختلف الوجوه.
حيث لا يتعلّم يوم من آخر، حيث تضطر البشريّة بأسرها، في كلّ ثانية، أن تدفع ضرائب تجارب مَن ترضى بتجاربهم ومَن لا ترضى. وغير صحيح أن كلّ خطوة يخطوها العقل في مكان ما إلى الأمام، إنما يخطوها عن الجميع وباسم الجميع ولخير الجميع.
هَذَرٌ هذا. خارج انزلاقة الفنّ، خارج دائرة تلك اللحظة الشعريّة التي أشرنا إليها في كلمة سابقة، خارج ذلك السلْك من الحرير، المرتعش كفراشة في مهبّ العواصف، لم يستطع شيء، لا في الفلسفة ولا في الدين ولا في السياسة، أن يوحّد البشر.
لحظة هشّة فقط، قلنا إننا جميعاً نستطيعها، قلنا ذلك من باب السكرة الصوفيّة، التماساً لأخوّة غامضة، مأمولة وهاربة، ودوماً مأمولة ككلّ ما هو هارب.

فجر 14 شباط 2008 ثلاث محطّات ينزل عندها المسافر وفي ظنّه أنه وَصَل... وإذا هو ينطلق إلى صحراء، إلى مليون صحراء، ويغدو الشخصُ هو نفسه وعدوّه.
وفي كلّ يوم محطّات، والقطار لا يتعب، والمحطّات، المفترض أن تكون استراحة، على الأقلّ استراحة من رحلة، تصبح بداية جديدة لتيه جديد.
ولا شيء يَجْمَع إلّا يُعمِّق في اللحظة التالية هوّة التباعد. دم الحريري جَمَع اللبنانيّين لحظات ثم فرّقتهم أيدي التفرقة أكثر ممّا كانوا متفرّقين قبل اغتياله. اغتيال عماد مغنيّة: يَحفر صداه في الاتجاه الذي صُمّم له أن يَحفر. الرسوم الدانماركيّة في مطلع القرن الحادي والعشرين تُذكّرنا بأنّنا ما زلنا، هنا أو هناك، ضحايا لما كنّا نَحْسبه أفضل ما فينا.

تبقى الجهة أو الجهات التي تتلاعب، تغتال أو تُحرّك، تُقلّد أدوار الآلهة.
الجالسون هناك، في تلك الظلال المؤنسة، تَهبّ عليهم نسائم الدهاء وتُجدّد فيهم خلايا التفوّق، الجالسون هناك يَنْعمون بشطرنج البَشَر ويضحكون لتحليلات الصحف، هؤلاء وحدهم، في شرّهم المنعتق من جميع القيود، أدركوا أن للحريّة معنيين: معنى يُخدَّر به أهل الطِّيبة ليستقيم استغلالهم، ومعنى يُفلت به أهل الاستبداد من كلّ حدّ إلاّ حدود مراعاة تراتبيّة القوّة في ما بينهم...

عوض أن يصرخ كلّ منّا في وجه جاره انحيازاً لإله من الآلهة، كان يجب، لو كنّا جنساً يتقدّم، أن نوجّه صرخة واحدة إلى تلك الآلهة جميعاً: لماذا!؟
أو أي سؤال آخر يمزّق هيبة تلك القاعة الوهميّة.
قبل الحياة وبعد الموت السؤال هو ذاته: لماذا!؟ وليس أَبأسَ من الإنسان إذا مضى في تجاهله.
وهو يتجاهله بلا رحمة بنفسه. يتجاهل لامبالاة جلّاديه ومصّاصي دمائه، لأنّه لا يستطيع العيش مع الحقيقة.
كما يحتاج إلى الإيمان كي لا ينتحر، يحتاج إلى الأوهام حتّى يتحمّس للنهوض من سريره في اليوم التالي، ولمعاودة الارتماء في أحضان قاتليه.
لذلك كان وما زال وسوف يظلّ هناك مَن يبني لنفسه ممالكَ فوق عظام الآخرين، لأن الآخرين هؤلاء محتاجون إلى عدم الفهم.
كلّا ليسوا أغبياء، بل هم طيّبون. وعلى عكس ما تقول الآية: «طوبى للودعاء فإنهم يرثون الأرض»، لا يرثون غير الرثاء في أفضل الحالات. ومع هذا يثابرون. كأن انكسارهم شرط لإيمانهم.

يمكن، ونحن في هذا الإطار من التيه، أن نتخيّل لحظة أمل ينقلب فيها «حزب الله» على نفسه فيطوي، هو والعماد عون، صفحة الخصام مع 14 آذار ويمدّ لها يد المصالحة، ولعلّ دم عماد مغنيّة يكون هنا خميرة للتحوّل.
ما قاله وليد جنبلاط قبل أيام عن «طلاق حبّي» مع «حزب الله» لم يكن تنفيساً مزاجيّاً، بل هو تعبير عن قعر الإحباط الذي وصلت إليه الحالة. كذلك كلامه عن الفوضى وعن الحرب. يقول جنبلاط ما يجول في خواطر الآخرين ولا يريدون أو لا يعرفون قوله. وقال كلاماً يكشف وصول البلاد إلى بداية الانقسام الفعلي، الاجتماعي لا السياسي فقط، وإمكان إمعانها فيه بل واحتمال لا جدوى إنقاذها منه. هذا هو روح كلامه الملتهب. ومثل هذا الموقف لم يُقابَل بما يستحقّه من انتباه، أو ردّ فعل في العمق يعيد فيه «حزب الله» النظر في علاقته بسائر مكوّنات المجتمع اللبناني، فضلاً عن الدولة، ليرى إمكانات الاندماج وصعوباته، سلاحاً وغير سلاح. فالأزمة الحاصلة وجوديّة لا سياسيّة، وعلاجها يلزمه آباءُ شعوب وأنبياءُ أوطان لا مياومو سياسة.
نتطلّع إلى مبادرة من «حزب الله»، ومن السيّد حسن نصر الله تحديداً، تردم هوّة الانقسام وتعيد بناء الوطن، لأنّ «حزب الله» هو لبّ الموضوع حاليّاً، ولأنّه الكتلة العسكريّة الأقوى، ولأنّ زعامته باتت تتجاوز حدوده لتمدّ ظلالها على مصير لبنان كلِّه، ولأنّ كثافته العدديّة وحديديّة التزام محازبيه وأنصاره تُرتّب على قيادته مسؤوليّة أكبر بكثير من
مسؤوليّة سائر القوى اللبنانيّة.
معروفة صعوبات ذلك، وأنّ الحجم المعنويّ كلّما كَبُر كَبُرت قيوده. والحجم العسكري كذلك. ولكنّ الذي نجح في توطيد شراكة تاريخيّة مع العماد عون وتيّاره ليس بالمستحيل عليه توسيع دائرة جسوره.

نتكلّم بصرف النظر عن تأثيرات الخارج. إنما هي مجرّد أمنيات في إطار ذلك التيه. وأيضاً على ضوء الدم. غير صحيح أن الدم يستسقي الدم في كل الحالات. في بعض الحالات الدم يَحْقن الدم. يُغيّر الاتجاه. يُعْلي فوق القَدَر.
يدفع إلى الواجهة بآباء لم نكن نتوقّعهم. أنبياء وطن نحتاج إليهم. حتّى لا تظلّ الأيام تتوالى بلا فائدة. حتّى يوقف أحدٌ الانحدار.

مسكين الفكر! عليه، كي يعيش صاحبُه، أن يهدأ، ولا يستطيع. وكلّما دار دورته كَفَر، وإن لم يكفر انفجر.
مسكين الفكر!
في الصباح يدعو إلى الفَلَاح، وعند المساء يَفغر له الفراغُ أشداقه!
مسكين الفكر! له عينان وليس له لسان، وله لسان وليس به شجاعة.
مسكين الفكر!
يريدكَ أن تَفرح، ولا يعرف كيف يُقْنعك بالإقبال على الفرح، إذ كيف لفاقد الشيء أن
يعطيه؟
مسكين مسكين الفكر في بلادنا، فهو يُخْلَق حرّاً لساعة، ويتدرّج بعدها في سلاسل العبوديّة حتى قيام الساعة.
ولا يرتاح الرأس المعذّب إلا بالموت. لا بالإيمان يرتاح ولا بالكفر، لا بالمواجهة ولا بالرضوخ. لا يرتاح إلى هذه وبها، إلّا مَن كان سيرتاح بها أو بغيرها عند أول امتحان. الرأس المعذَّب، في أرض الإرهاب والطِّيبة، لا يُريحه غير الموت.