نقولا ناصيف
في 14 شباط 2008 أقفل كلٌّ من قوى 14 آذار والمعارضة أبواب التفاهم والاتفاق دون الآخر. حدّد كل منهما أيضاً عدوه الخارجي على أنه مشكلته الوحيدة، وجزم بعدم تنازله لندّه الداخلي. قالت قوى 14 آذار إن عدوّها الفعلي هو سوريا، وقرّرت المضي في المعركة ضدها إلى النهاية. وكذلك حزب الله جهر بمعركته المقبلة ضد إسرائيل بعد اتهامها باغتيال الرجل الأمني الأول فيه، عماد مغنية. في خلاصة هذين الموقفين، رسم فريقا النزاع اللبناني ملامح الصراع للمرحلة القريبة المقبلة، وهي أنه سيدور على أرض العدو، مع معرفته المسبّقة بأن تداعياته ستنفجر في لبنان. بذلك التقيا في وقت واحد على إسقاط كل احتمال ممكن لاستعادة الحوار الداخلي الجدّي وبلوغ حد أدنى من التفاهم.
تعزّز هذه الملامح ملاحظات، منها:
1ـــــ أن اللهجة العالية النبرة التي طبعت مواقف أفرقاء الصف الأول في قوى 14 آذار حيال المعارضة، دحضت ما كان قد قيل في الأيام القليلة التي سبقت احتفال ساحة الشهداء، وهو أنها رمت حينذاك إلى تجييش الرأي العام والأنصار والمؤيدين لحضّهم على المشاركة بكثافة في الساحة، وأن مدّ اليد إلى الحوار مع الفريق الآخر هو الذي سيسود خطب أركان 14 آذار، بعد أن يكونوا قد قدّموا برهاناً إضافياً على أن الشارع لا يزال يلتزم خياراتهم، وأن الغالبية لا تزال الأكثر شعبية وتمثيلاً للرأي العام. في حين أن المواقف التي أطلقت من منصة ساحة الشهداء أبرزت قراراً مختلفاً لدى قوى 14 آذار هو إمعانها في التصلّب بمواقفها وشروطها، ورفض كل تسوية سياسية تحملها على التنازل عن أي مكسب تملكه. الأمر نفسه يصحّ على ما أعلنه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في أسطر قليلة مخاطباً الموالاة، وأخصّها رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط، إذ يدعو إلى الرحيل مَن يطلب الطلاق مع لبنانيين آخرين. وهي المرة الأولى في لغة التخاطب السياسي التي لا يعلن فيها طرفا النزاع استعدادهما لإقفال أبواب الحوار والتفاهم في ما بينهما فحسب، بل استعداد كل منهما أيضاً للطلاق مع الآخر أو تطفيشه من هذه الأرض، أو ربما إلقائه في البحر. وقد يكون مؤشر هذه المواقف أن كلاً من الموالاة والمعارضة، بعد شتى الاتهامات والتهديدات المتبادلة في الأشهر الأخيرة، لم يعد يرى لندّه مكاناً في المعادلة الداخلية، ويريد أن يدفع به إلى اختبار مواجهة الشارع لحسم الصراع السياسي.
2ـــــ إدماج إضافي للبعد الإقليمي في النزاع الداخلي على نحو يجعل من الصعوبة بمكان، بعد اليوم، استبعاد هذا العامل بغية إمرار التسوية الداخلية. بل أضحى استمرار الخلاف عليه سبباً لتفاقم أكبر للخلاف المحلي، وما تقوله المعارضة عن عداء قوى 14 آذار لسوريا، تقوله الموالاة عن إعادة إدخال المعارضة، وخصوصاً حزب الله بعد اغتيال مغنية، إسرائيل في قلب المعادلة والصراع الداخلي. بذلك راح كل من الطرفين يتصوّر أن معركته الفعلية هي الدولة الإقليمية العدوة، وأن الخلاف الداخلي لم يعد سوى تفصيل ثانوي في هذه المعركة، ولكنه غير قابل للحل ولا للمساومة عليه. بل الأسوأ في مثل هذه المقاربة أن كلاً من الفريقين راح يجد في ندّه صورة سوريا أو إسرائيل، عندما يتحدّث الموالون عن حزب الله على أنه سوريا وإيران اللتان تريدان تدمير لبنان، وعندما يقول الحزب وأمينه العام خصوصاً إن لبنان لن يكون أميركياً أو إسرائيلياً، أي لا يكون الحكم في قبضة الغالبية وحدها. على نحو كهذا من التخوين المتبادل ـــــ وقد بلغ الذروة ـــــ يقول الطرفان إن حياة مشتركة بينهما غير قابلة للتسوية، لأنها لم تعد تطاق.
صارت قوى 14 آذار جزءاً من المواجهة الدولية لدمشق ورأس حربتها، وأعاد هذا الفريق ترتيب أولوياته مجدّداً في هذه المواجهة بحيث تدير ظهرها للداخل اللبناني، وتتصدّر المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري معركته الأخيرة مع النظام السوري. وهو مغزى نجاح الزعيم الدرزي في استدراج حلفائه في قوى 14 آذار إلى ساحة مواجهته هو مع دمشق لا مع حلفائها، والقائلة إن المخرج الوحيد لهذه المواجهة هو أحد حلين، لكنهما يفضيان إلى نتيجة واحدة: إسقاط النظام السوري أو إدانته باغتيال الحريري على يد العدالة الدولية على طريق عزله نهائياً توطئة لإسقاطه. ولم يكن هذا الموقف ما كان يدين به حلفاء جنبلاط، إذ أنكروا تكراراً تأييدهم ما كان قد قاله ولا يزال منذ ثلاث سنوات.
والواقع أن قوى 14 آذار باتت متيقنة أكثر من أي وقت مضى من عجزها عن الانتصار على سوريا وكسب معركة المواجهة معها في لبنان من خلال التغلّب على حلفائها، دون أن ينفجر لبنان برمته. وقد تكون سلسلة التأكيدات الصادرة عن أكثر من مرجع دولي بدءاً من الأمم المتحدة مروراً بدول كبرى كفرنسا وروسيا أخيراً، وكذلك بدول عربية، إلى الجرعة المالية الأميركية المهمة لتمويل المحكمة الدولية، خير معبّر عن أن المرحلة المقبلة من الضغوط على نظام الرئيس بشار الأسد ستكون من المجتمع الدولي، لا من لبنان. وستتركز مباشرة على إطلاق المحكمة الدولية لإقفال الأبواب نهائياً دون أي اتصال محتمل به.
يصحّ الامر نفسه على خيارات حزب الله حيال الدولة العبرية، وقد أطلق نصر الله الخميس الفائت شعارين متلازمين، إلا أن أحدهما يمهّد للآخر. وهما الحرب المفتوحة مع إسرائيل وإنهاء كيانها. تالياً، فإن الحزب ـــــ وإن أوحى أن ساحة الصراع ستكون في مكانها الطبيعي في إشارة ضمنية إلى الداخل الإسرائيلي ـــــ بيد أنه يعيد بذلك الجنوب ساحة صراع جديدة، ويرسل إشارات قوية إلى تهديد مبطن للقرار 1701 الذي سيكون مسرح أي ردّ فعل إسرائيلي على ما قد يفعله الحزب انتقاماً لاغتيال مغنية. وهو مغزى قلق الغالبية من تهديدات نصر الله، إذ يلمّح إلى احتمال قيام الحزب بردّ فعل خارج لبنان، فيخرج بذلك على مفهومه لمقاومته ومبرّرها المشروع في كونها مقاومة للاحتلال.
وهكذا يتسلّح كل من الطرفين بالدوافع التي ينبذها الفريق الآخر: تهديدات الأمين العام لحزب الله إسرائيل تفتح السجال مجدّداً على مصير قراري الحرب والسلم ومصير لبنان من خلالهما ، ومقاربة الموالاة المحكمة الدولية على أنها الوسيلة الوشيكة والأكيدة لإسقاط النظام السوري تفتح بدورها سجالاً مماثلاً على خيار تفجير الاستقرار اللبناني.