جان عزيز
«إذا كان تقرير فينوغراد قد شخّص الأزمة في إسرائيل بأنها أزمة زعامة، فأنا أقول إن أزمتنا في لبنان، هي أزمة ثقة». هذا الكلام للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في مقابلته التلفزيونية الأخيرة مع العماد ميشال عون في 6 شباط الجاري، اكتسب في اليومين الماضيين، وخصوصاً بعد اغتيال عماد مغنية في 12 الجاري وكلمات فريق السلطة في 14 منه، أبعاداً أكثر دقّة وحساسية وخطورة.
أصلاً، حين تكلم نصر الله عن أزمة الثقة القائمة، كان يعتمد أسلوباً تخفيفياً في الكلام عمّا يواجهه هو شخصياً، كما حزب الله ومسؤولوه، من تعاطي فريق السلطة ومواقفه. هكذا تجزم أوساط متابعة وقريبة من قيادة «الحزب».
وتشرح الأوساط نفسها قائلة: معروف أن تلك الأزمة نشأت خصوصاً إبّان عدوان تموز. يوم وجدت ما يكفي لانفجارها في كلام المصدر السعودي بعد 72 ساعة على بدء العدوان الإسرائيلي، وما تلاه من موقف لسعد الدين الحريري بعد أيام قليلة، بشّر بمحاسبة «الحزب» ومسؤوليه. بعدها، وطيلة 33 يوماً من أعنف معارك القصف الجوي، تتالت معطيات الأزمة والتشكيك والتخوين. لكن الأخطر، أنه رغم مصارحة مسؤولي الحزب بهواجسهم ومخاوفهم ومكاشفة الرأي العام بذلك، لم تتوقف بواعث الخوف ودوافع تعميق الأزمة.
وتتابع الأوساط نفسها، أن العالم كله يدرك، وخصوصاً فريق السلطة، أن إسرائيل أنشأت بعد عدوان تموز وحدة خاصة تضم نخبة من عناصر أجهزتها الأمنية، وحدّدت لها مهمة وحيدة: «رصد حسن نصر الله واغتياله». إضافة إلى الوحدات الأخرى المكلّفة المهمة نفسها تجاه كوادر «الحزب» الآخرين.
ورغم وجود هذا «الخطر الأكيد»، ظل التعامل قائماً بخفّة حيال عوارضه من جانب المسؤولين اللبنانيين. ففريق السلطة مثلاً، يقبض في يديه على شبكة أصولية متهمة باغتيال نصر الله، لكن المفاجأة كانت محاولة التخفيف من صراحة اعترافات أعضائها، رغم إصرارهم على القول في إفاداتهم إن هدفهم اغتيال الأمين العام لحزب الله، وتمسكهم بتسجيل ذلك في محاضر ضبطها، من باب التباهي أو المفاخرة ربما.
بعدها وصلت إلى الدوائر المختصة في الحزب معلومات اطّلعت عليها السلطة القائمة، ومفادها أن إسرائيل عمدت منذ فترة إلى تجنيد مجموعة شيعية في العراق، وحضّرتها ودرّبتها ليكون بينها متخفّون بزيّ رجال دين، ينتقلون إلى لبنان، ويتقرّبون من حزب الله، وصولاً إلى التسلل إلى قاعات اجتماعاته العامة، بواسطة «رجال الدين» هؤلاء، المزوّدين أحزمة ناسفة، لتفجيرها انتحارياً، واغتيال عدد من مسؤولي «الحزب».
وفي المقابل، كان البعض من مسؤولي السلطة يعمد في توقيت متزامن، إلى إثارة قضية التمديدات الهاتفية التابعة للحزب، وهو ما عُدّ مسّاً مباشراً بأمن مسؤوليه. والأمر لم يلبث أن تفاقم بعدما عُلم أن السفير الأميركي السابق جيفري فيلتمان، كان يحثّ أعضاء الحكومة القائمة، وفريق الموالاة شخصياً، على متابعة هذه المسألة وعدم السكوت عنها. كما تبيّن أن الحكومة نفسها حاولت زجّ الجيش اللبناني وأجهزته الأمنية في هذه القضية، وهو ما نجح مسؤول أمني عسكري رفيع في فضحه وتجنّبه في جلسة موثّقة لمجلس الوزراء قبل أشهر.
وتؤكد الأوساط نفسها أن الروايات المنسوبة إلى أجهزة سورية بشأن تجنيد إسرائيل عملاء لبنانيين بارزين، أو التحليلات التي تحاول الربط بين اغتيال مغنية واستذكاره على لسان وليد جنبلاط قبل أسابيع، قد لا يجدر التوقف عندها ولا إعطاؤها أكثر من تصنيف الحملات السياسية والإعلامية المصادفة. غير أن أمراً آخر تتوقف قيادة «حزب الله» عنده باهتمام بالغ. ذلك أن الكلام الذي كشفه نصر الله في مقابلته التلفزيونية المذكورة، عن الالتزام الذي كان قد تقدم به رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، لجهة الحفاظ على سلاح «الحزب» حتى التسوية الشاملة في المنطقة، لم يكن غير جزء يسير من مجمل التفاوض والتباحث الذي جرىَ بين الرجلين مطلع عام 2005، وقبل اغتيال الحريري بأسابيع قليلة. ذلك أن القسم الأهم من ذلك البحث، تمثّل في إقدام رئيس الحكومة الراحل، على مفاتحة نصر الله في إمكان قيام «تحالف وتعاون» بين الاثنين، على مستوى المنطقة كلها، انطلاقاً من إدراك الأول للحجم الذي اكتسبه زعيم حزب الله عربياً، ومن طموحه إلى مزاوجة دوريهما، بهدف التحوّل إلى قوّة قادرة على حل الكثير من الأزمات الإقليمية المجاورة. وفي المقابل، بادر فؤاد السنيورة قبل أسابيع، إلى تبنّي كتاب صادر أخيراً، يشير إلى أن الحريري كان قد أبرم في ذلك الوقت نفسه، اتفاقاً داخلياً وخارجياً، يهدف إلى ضرب «الحزب». ليس المقصود من هذا التبنّي السلطوي تكذيب الراحل فحسب، ولا مجرد إبلاغ الحزب بالتراجع عن التزامات رفيق الحريري، بل الأهم، كما تعتقد الأوساط نفسها، أن الرسالة المقصودة، هي إبلاغ من يلزم ويهمّه الأمر، بأن في بيروت من هو مستعد للسير في هذه الخطة.
أزمة ثقة؟ بل أكثر من ذلك بكثير، وأخطر. إنها مرحلة «من يبقى حياً»، إلا إذا اعترف أحدهم أخيراً بأنه كان يكذب طيلة «حرب السنتين» الماضيتين، كما فعل طيلة ربع القرن الماضي.