strong>غسان سعود
• المنازل المتداخلة: خالد يحمّل أبو علي مسؤوليّة ضرب الاقتصاد، والأخير يردّ بطلب حصّته من الحكومة

تكفّل رصاص المبتهجين بإطلالة سعد الحريري على شاشة «المستقبل» بإفراغ العاصمة يوم السبت الماضي (9 شباط) ونشر الذعر. وقبل أن ينسى الناس ذلك، تكرر الأمر أول من أمس، فوجد المواطنون أنفسهم وسط الرصاص وقنابل المولوتوف، يرون جيرانهم يضرمون النار في سياراتهم، ويسمعونهم يهددون بمجازر إذا لم يخلوا الأحياء المختلطة

كان الحجز مكتملاً في ملهيي «Crystal» و «BO18 classic» قرابة التاسعة والنصف مساءً والموظفون ينهون اسعداداتهم لاستقبال الضيوف حين دوّى الرصاص شمال الملهيين في منطقة رأس النبع. المنطقة كانت تتسم بالهدوء، وسكانها من الطائفتين السنيّة والشيعيّة اعتادا الحذر في التعامل بعضهما مع بعض لعدم جرِّ الحي المحاذي لطريق الشام إلى مشكلة، وخصوصاً أن الأهالي (يضاف إلى السنّة والشيعة أبناء الطائفتين المسيحية والدرزية) يتشاركون العيش في هذه الأحياء منذ بنيت المنازل البسيطة مكان بساتين الحمضيات قبل أكثر من خمسين عاماً.
وفي هذه الأحياء، يصعب اكتشاف في أي شارع يقطن السنّة وفي أي شارع يسكن الشيعة. فهنا تظلل صورة الرئيس نبيه بري صورة الرئيس الحريري، وترتفع صورتا النائب الحريري والسيّد حسن نصر الله، الواحدة قبالة الأخرى، وترتفع في أكثر من بناية صور الحريري على شقة، وصور بري ونصر الله على شقة مجاورة. والناس ببراءة يجمعون على القول «في حياتنا لم نقل شيعي أو سنّي. ومعظمنا كان يقصد الجامع الأقرب إلى منزله دون تمييز. الآن فقط، منذ اغتيال الحريري، بدأنا نكتشف الفرق». منذ ذلك الاغتيال والتظاهرات التي تلته، خربت العلاقة بين الناس. ما عاد خالد هو نفسه بالنسبة لجاره أبو علي، صارا «السنّي خالد» و«الشيعي أبو علي». يُحمِّل الأوّل الثاني مسؤوليّة الخراب الاقتصادي نتيجة إصراره على التحرّش بإسرئيل، ويتّهم الثاني الأوّل بالإصرار على تهميشه وعدم قبوله شريكاً في الحكم.

«بدأوا الانقلاب»

السبت، العاشرة إلا عشر دقائق، «كنا في منزلنا نتابع فيلماً أميركياً على إحدى القنوات الأجنبية، حين بدأ إطلاق الرصاص. ركض شادي (خمس سنوات) واختبأ بوالدته، مردداً: «بدأت الحرب»، وقفز الابن الأكبر حسام إلى النافذة وهو يصرخ بي لأناوله البندقية إذ بدأ «الانقلاب». لكنه سرعان ما أبلغني أن المسلحين يأتون من صوب «مبنى المستقبل» (مبنى قديم أعيد تأهيله أخيراً وتستخدمه شركة أمنية محسوبة على تيار المستقبل). شعرت أنني لا أقوى على التحرك فوق الكنبة، وكنت أطلب منه الابتعاد عن النافذة، أنا أعرف معنى الحرب، وأعرف من يموت فيها.
أنا من تيار المستقبل، نعم، لكنني أرفض ما حصل، ولم أفهمه. كان المسلحون (قرابة 15) من أبناء الحي، نعرفهم جيداً، وبعضهم من خيرة الشباب. كانوا يطلقون الرصاص بطريقة جنونيّة، ويختارون سيارات وشققاً دون غيرها، يروّعون الناس دون تمييز بين شيعي وسنّي رغم صراخهم، مطالبين الشيعة بالرحيل عن بيروت. نعم، حاول المسلّحون المزوّدون قنابل «مولوتوف» أكبر من المتعارف عليها، كما قال ابني حسام، حرق مكتب حزب الله. أنا أختلف مع الحزب، لكن هذه التصرفات معيبة، حتى لو كان المعارضون هم البادئين. نحن ورثة الرئيس الحريري لسنا هكذا، ولن ننجرّ إلى إحراق البلد». وقبل أن يتابع الحاج أبو حسام كلامه في متجر الخضر الذي يملكه، يقاطعه أحد شبان الحي قائلاً: «كفى يا حاج، عن أي جيران تتحدث؟».

حرب شقق مولوتوفيّةومقابل الحماسة للحرب، تتكئ سيدة خمسينية على حافة نافذة منزلها وتروي كيف صمد سنّة رأس النبع وشيعته في منطقتهم الممتدة بين ميدان سباق الخيل وتقاطع بشارة الخوري خلال الحرب السابقة، رغم القصف الهائل الذي تعرّضوا له من «أحزاب الأشرفية»، وترتاح دقيقتين قبل أن تتابع: «بتنا نخاف أن نقول إن المسلم خيّ المسلم، وإن المسلم حرام عليه دم المسلم وماله وعرضه. ثمة وحوش هنا وهناك مستعدون لافتراسنا قبل سماع كلام كهذا».

«صباح الخير»

بعد انتشار الجيش وعودة الأهالي إلى منازلهم قرابة الساعة الحادية عشرة والنصف، ساد الهدوء، وسرعان ما أطفأ الناس أضواء منازلهم وناموا. وقرابة الساعة السادسة، وصل عمال شركة «سوكلين» لتنظيف الحي، ليستيقظ الناس على مشهد ما كانوا يتوقعونه: طرقات نظيفة، محو لآثار القنابل، وجيش موزّع على جانبي الطرقات يوحي الأمان.
كان أمس مجرد كابوس، يعلّق أحد اللحّامين في الحي، مشيراً إلى طبيعية الحياة حوله. ويسارع جاره إلى إخفاء رصاصة وجدها تحت سيارته، مردداً أن المشاكل طبيعية وتحصل في كل المناطق، ولا حاجة لتكبيرها أو إعطائها بعداً طائفياً، مؤكداً أن الذين سببوا فوضى الأمس هم مجرد «حثالة» من خارج المنطقة حاولوا إثارة فتنة شيعيّة ــ سنيّة. والأهم، بحسب الرجل نفسه، أن أهالي المنطقة أحبطوا هذا المخطط وأثبتوا محبّتهم لبعضهم البعض واحترامهم لتمايزهم السياسي.
كلام يردده كثيرون، ويردده معهم مسؤولو الأحزاب الموالية والمعارضة في رأس النبع. وعن التطورات لو سقط قتلى نتيجة إطلاق الرصاص، يتجنّب الجميع الفرضيّات، و«خصوصاً أن ثمة زعماء واعين، وقادرين على حل المشاكل حين تلامس الجديّة القاتلة». هكذا تستيقظ رأس النبع على خيرٍ، خير لا يريد بعض الأهالي أن يشوبه سوء ظن بما حصل ليل السبت. ما حصل كان مجرد كابوس، لا أكثر.

«مستعدّون للحسم»

لكن ثمّة من لا يرضى أن يُشتم زعيمه، ويطلق الرصاص على شقته، وتُحرق سيارته، ثم يطلب منه أن يمسحها بذقن الوحدة الوطنيّة. ثمّة من يزداد غضباً، ومن يزداد ضيقاً، ومن يزداد جديّة في الكلام عن حرب قادمة، حرب لا تحتاج، وفق أحد هؤلاء، إلى قرار سياسي، ولا تحتاج إلى غطاء دولي أو تمويل إقليمي. ففي كل منزل سلاح، وفي كل منزل شخص على الأقل مستعد لحمل هذا السلاح. أما الجيرة والصداقة وغيرهما، فلن تدخل في الحساب عندما يجدّ الجد. يزداد الناس كرهاً بعضهم لبعض، يقول شاب آخر مشيراً إلى المسدس القابع تحت قميصه، قبل أن يردد قرف الناس من السجال السياسي، وتعنت الفريقين، واستعدادهم لحسم الأمور. حسم، يؤكد الشاب المعارض أنه لا يحتاج أكثر من أربع وعشرين ساعة، تصبح بعدها بيروت عاصمة المعارضة. أما ما بعده، فأمر يغيب عن بال هذا الشاب. فيما يلتقط أحد شبان الموالاة في رأس النبع أنفاسه بعد شرحه لما ستكونه الأمور إذا قررت الموالاة حسم الأمر عسكرياً، ويقول إن بعد هذا الحسم مصالحة، كعادة الحروب اللبنانية. مصالحة تعطي أحد الطرفين (المدعوم دولياً طبعاً) النصر تحت عنوان «لا غالب ولا مغلوب».
من هنا، وحتى تلك المصالحة، يفترض أن يعتاد المواطنون عدم الخروج ليلاً، ينصح أحد المتابعين، وعليهم أن يعتادوا سماع أزيز الرصاص وهم يغطّون في نومهم، فالحرب التي نسج الأهل حولها قصصاً كثيرة تتحول واقعاً يعيشه بعض أطفال الأمس مقاتلين ورثوا من قصص أهلهم الشكّ بالآخر والإلفة مع الرصاص.

سهرة رصاص


عبثاً تُنبِّه الرسائل التي يبعث بها الأصدقاء عبر أجهزتهم الخلويّة من خطورة الإشكالات المتنقّلة بين أحياء بيروت. واتصالات الأهل والأصحاب لا تثني روّاد الملاهي الليلية عن متابعة السهر في الجميزة ومونو القريبتين من مناطق الاشتباكات.
فعلى وقع الرصاص، يصبح للكأس طعم مختلف، ويصير الاستسلام للرقص أكثر مشروعيّة في حياة تصبح يوماً بعد يوم أشدّ توتّراً وقلقاً. وفي صباح اليوم التالي، تزول «السكرة» وتأتي «الفكرة»، فيستيقظ السهّيرة الأبرياء على بيان للجيش اللبناني يطلب عدم نشر صُور ما حصل، حقناً للدماء ومنعاً لشحن النفوس.


تحليل أمني


أجمع المراقبون على اعتبار حوادث السبت نتيجة للاستفزازات المتفاقمة منذ أسبوعين. وقيل إن مؤيدين لتيار المستقبل ألقوا خمس قنابل مولوتوف على محل إنترنت قبالة مدرسة إبن رشد يتواجد فيه عادة أنصار حزب الله.
وبعد قليل، وقع تصادم بين مؤيدي الحزب وحركة أمل وبعض الوافدين من منطقتي الطريق الجديدة والبربير الذين حاولوا اقتحام شارع محمد الحوت، بعدما وصلتهم معلومات مضللة عن تعرض أنصار «المستقبل» في رأس النبع للاعتداء. وفي الوقت نفسه، اشتبك شبان من الخندق الغميق (مؤيّدون لحركة أمل) مع آخرين مؤيّدين للمستقبل عند تقاطع بشارة الخوري، وقيل إن مسلحين تابعين للشركة الأمنية المحسوبة على تيار المستقبل تمركزوا فوق أسطح
البنايات.