strong>أحمد محسن
• تردّي خدمات «الأونروا» يطال المرضى... وأطباءهم

داخل مخيّم برج البراجنة للاجئين الفلسطينيين طبيب واحد للصحة العامة، طبيب واحد للقلب وآخر للعظم، طبيبان نسائيان وستة أطباء للأسنان، وبضع صيدليات. الحالة الصحية في «مخيّم البرج» تزداد سوءاً والنداءات المستغيثة لا تجد الآذان التي تسمع صوت الألم الفلسطيني في لبنان

منذ أسبوعين نفّذ الاتحاد العام للأطباء والصيادلة الفلسطينيين إضراباً في لبنان، توقفوا خلاله عن معالجة المرضى، ما عدا ما وصفوه بـ«الحالات الساخنة». عُلّق الإضراب لمدة عشرة أيام استجابةً لدعوات المنظمات الإنسانية. وهدّد الاتحاد المنظمات السياسية المسؤولة والمراجع المعنية بالشأن الفلسطيني بالإضراب إلى أجل غير مسمى، ابتداءً من أواخر شباط، إذا جرى تجاهل مطالبهم التي تركزت على زيادة رواتبهم وصرف العلاوات التي لم تُصرف، ووُزّعت على شكل بيانات سُلّمت إلى الصحافة والفصائل الفلسطينية.

طبيب... عليل

وفقاً للهلال الأحمر الفلسطيني، يحصل طبيب الصحة العامة المنتسب إلى الهلال الأحمر على 300 دولار في الشهر، والطبيب الاختصاصي على 400. الراتب الشهري يكاد لا يكفي لشراء الأدوية التي يدفع بعض الأطباء ثمنها من حسابهم، فالأونروا لا تقّدم إلا مجموعة محددة منها.
المشكلة الثانية تكمن في غياب التأمين الصحي للأطباء أنفسهم. هم يعالجون المواطنين الفلسطينيين، لكنهم معرّضون أيضاً للمرض، من دون وجود أي ضمانةٍ لعلاجهم، وخصوصاً في ظلّ غياب تعويض نهاية الخدمة وعدم إنشاء صندوق التوفير للأطباء حتى الآن. يضاف إلى ذلك تدني العائد الذي يتلقّاه الأطباء لقاء أتعابهم، لكون الوضع الاقتصادي داخل المخيمات ليس بحاجةٍ إلى الوصف من شدة السوء، وبالطبع ما من جهةٍ تنظّم هذا العائد، الذي يصل في حالته القصوى إلى عشرة آلاف ليرة لبنانية فقط، كما أكد الدكتور بلال الخالد، الذي يعمل داخل مستشفى حيفايشكو أطباء المخيّم من تسييس إدارة الهلال الأحمر الفلسطيني، فقياداتها التابعة لجهات سياسية نافذة هناك، تتلقّى العلاج في أفضل المستشفيات اللبنانية، كما يتهمون المنظمات السياسية بتحطيم الإرادة الفلسطينية وإجبار العقل الفلسطيني على الهجرة. الدولة اللبنانية بدورها تمنع الأطباء الفلسطينيين من أي نشاطٍ مهني خارج حدود المخيمات، فلا تمنحهم حق مزاولة العمل، رغم نجاح غالبيتهم في الحصول على شهادة الكولوكيوم ضمن المسابقة التي تجريها وزارة الصحة لمعادلة الشهادات الجامعية المتعلقة بالطب. أي نشاط طبي ممكن ممنوع على الأطباء الفلسطينيين، حتى إجراء عملية جراحية عبر التعاقد مع أحد المستشفيات ممنوع، وبالطبع الانتساب إلى نقابة الأطباء غير مسموح. يسمح للطبيب الفرنسي أو التركي أو من أي جنسية كان أن يؤدي واجبه الإنساني، بينما يُسلب الطبيب الفلسطيني من حقوقه المدنية والمهنية. كلّ العوامل تجتمع في خانةٍ واحدة: تدنّي الخدمات الصحية التي يتلقّاها أهل المخيمات إلى درجة مخيفة. الإصابات بالجملة... والأدوية لا تكفي!

تراجع الخدمات... بالأرقام

يؤكد الدكتور عبد العزيز الحاج علي، طبيب الصحة العامة الوحيد في المخيّم، الذي يسكنه 21 ألف لاجئ، أن الأونروا تغيّرت كثيراً «بعد توقيع اتفاق أوسلو بالتحديد، ولم تعد تغطّي شيئاً من تكاليف علاج المريض الفلسطيني، وتغيّرت الأرقام لتتدنّى إلى هذا الشكل». ويؤكد أن الطبيب المعيّن من الأونروا يقابل سبعين مريضاً في ظرف ست ساعات عمل، أي بمعدل ست دقائق للمريض الواحد، وذلك مثبت وفقاً لتقارير وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى (الأونروا).
وشهد تحمّل المنظمة لنفقات علاج الأمراض المزمنة القسم الأكبر من التراجع في تغطية التكاليف. فقد كان علاج السرطان بكامله على حساب الأونروا. أما اليوم، فتدفع المنظمة ثلاثة آلاف دولار فقط، فيما المعدّل العالمي لعلاج حالات السرطان هو 120 ألف دولار سنوياً. المصيبة الأخرى، كما يصفها الحاج علي، هي عمليات القلب المفتوح، «فالأونروا توفّر 1500 دولار للسرير الواحد، فيما القيمة الفعلية للعملية هي 6000، ويضطر اللاجئ الفلسطيني إلى دفعها من حسابه، وهو أمر يشبه المستحيل استناداً إلى التركيبة الاقتصادية في المخيّم».
أما بالنسبة إلى العمليات الطارئة، وخاصةً بعد أن تحوّل الهلال الأحمر الفلسطيني إلى العمل الخاص عبر عملية التعاقد التي يجريها مع الأونروا، فقد صارت المنظمة العالمية تدفع 80 ألف ليرة لبنانية كرقمٍ ثابت في كل العمليات، مهما حصل من تطورات في سير العملية. فالمريض يحوّل إلى مستشفى لبناني خارج المخيّم، ويجري تحمّل نفقات السرير، أما ما هو غير ذلك فيترتب على المصاب.
حتى داخل المخيّم، يجب على المريض الفلسطيني أن يسجّل أوراق اعتماده للحصول على ملفٍ في الأونروا، وحين دخوله إلى مستشفى حيفا داخل المخّيم يدفع «تأمين» تصل قيمته إلى 100 ألف ليرة، لا يستعيدها إلا بعد التأكد من أنه مسجّل وأوراقه معتمدة. العملية معقّدة جداً، وتؤدي إلى تدهور كثير من الحالات، بطريقة لا تمت إلى الإنسانية بصلة. وفي الحديث عن الإنسانية، يطلعنا الحاج علي على مشكلة أخرى: «التلاسيميا وsickle cell anemia، مرضان لا حلّ لهما بالنسبة إلى اللاجئ الفلسطيني. إذ يوجد في لبنان كله مركز واحد لعلاج هذه الأمراض في الحازمية، فيه 12 سريراً لا غير، ولهذا تكون الأولوية للمرضى اللبنانيين، والمركز غير ملام على ذلك»، على حد قول الطبيبويشير الحاج علي بإصبعه إلى رفّ مقابل مكتبته حيث توجد كمية كبيرة من الأدوية. «هذه كلها على حسابي الخاص ولا أستفيد من الحسومات شيئاً، كذلك سائر الأطباء هنا»، مستغرباً سوء الأوضاع التي وصلت إليها الصحة في المخيّم. وعند سؤالنا عن نوعية الأدوية التي تقدّمها الأونروا، يعدّد بضعة أسماء أبرزها الـpolaramine، ويقول: «هذا ما تقدّمه الأمم المتحدة، أدوية محدودة، وعلى المريض الفلسطيني أن يدبّر نفسه»، أحياناً يضطر المرضى إلى استعمال الدواء نفسه في حالات مرضية مختلفة!
يستفيض الطبيب في الشرح: «الدواء لا يكلّف أكثر من أربعة آلاف ليرة في قبرص، حيث تجري أكبر عمليات الاستيراد إلى لبنان، وقبرص نفسها تستورد المواد من الهند بنسبة 25 في المئة من السعر الأساسي المذكور. المريض الفلسطيني هو الذي يدفع الثمن والفارق وكل شيء».

اللاجئ يدفع الثمن

في عيادة متواضعة، يجلس مواطنون كثر. الكراسي قديمة جداً، وليست من طرازٍ واحد. صور على الحائط للانتفاضة وخرائط لفلسطين المحتلة. التعب يلف وجوه المرضى، ونظراتهم القليلة تنفي الحاجة إلى التعليق أو السؤال. أحد هؤلاء، «أبو علاء»، يمدح الطبيب ويصفه بـ«أبو الفقير»، لأنه لا يأخذ شيئاً من أتعابه. «لولاه ما كنا سنفعل شيئاً، لا أحد يهتم بنا، فصائلنا تتقاتل هنا على السياسة وفي غزة على النفوذ».
مريض آخر مع ابنه يشكو الإهمال، ويطلب منا النظر إلى ضيق الطرقات وسوء تنظيم الصرف الصحي، ويسأل: «ألا يسبب هذا أمراضاً لا تشفى؟». ثم يؤكد أنه لم يستطع شراء الدواء لأن ثمنه عشرون ألفاً، اضطر إلى مشاورة زوجته بالموضوع ثم إلى الاستغناء عن الدواء، لأن المصروف لا يحتمل.
«انظر إلى هذا الطفل، يشير بيده إلى الزاوية، حيث مريضة مع ابنها الصغير، ترفض الكلام، وتقول: «دعونا نعيش». السيل بلغ الزبى في مخيّم الموت. سوء الوضع الصحي يتفاقم بطريقة دراماتيكية، فيما الجميع ينشغل بالسياسة والشعارات.
لا يوجد بنك دم في مخّيم برج البراجنة، لكن الطبيب بلال الخالد أكد أنه حتى الآن لا مشكلة في ذلك، فالمتبرّعون كثر، وفئات الدم الموجودة مقسّمة على أكثر من متبرّع، دائماً جاهزون، حتى في فئات الدم النادرة. وعندما لا يستجيب أحد للنداء الذي يوجّه عبر مكبرات الصوت في المسجد، يجري استدعاء بعض الأشخاص القادرين على التبرّع، فيأتون بكل طيبة خاطر. بيد أن الأطباء يؤكدون أن الوضع في المخيمات التي تسيطر عليها حركة «فتح» تحظى بظروفٍ صحية أفضل بكثير، كمخيّمي عين الحلوة والرشيدية.
عندما تشتدّ أزمة ما، يجتمع «أهل المخّيم» ويقومون بما يسمونه «اللمّة»، فيتبرّع كلٌّ منهم بما يستطيع، لمساعدة المريض ذي الحاجة الماسة، كما يستعينون بالفلسطينيين المغتربين في دول الخليج وفي العالم. وقد حدثت أكثر من مرة، كما يقول أكثر من شاهدٍ في المخيم، بينهم الطبيب بلال الخالد. الألفة لا زالت تجد مكانها في قلوب الفلسطينيين، رغم الإهمال المخزي الذي يتعرضون له في لبنان.



اللحمة تنقذ علي من الموت

داخل أزقة المخيّم الضيقة. ولد الطفل علي عامر عيسى وهو يعاني خللاً كبيراً في نخاعه الشوكي. كانت حالة الطفل نادرة جداً برأي الأطباء، ويترتب على علاجها تكاليف باهظة تحمّلتها عائلته المؤلفة من والد (بلّاط) وعم (فوّال) وبعض الأقارب، أبرزهم شقيقه المغترب، (الذي توفي منذ أسبوع) حتى بلوغه سن العاشرة. أما الأونروا، فلم تقدّم أي مساعدة له، لأنّها ترى حالته خارجة عن نطاق مسؤولياتها.
قضى الطفل فترةً طويلة، بين المستشفيات داخل المخيم وخارجه، من دون مدرسة، كأبناء سنّه. في العاشرة من عمره، أبلغ الأطباء أهله أنه يجب إجراء عملية مصيرية لزرع نخاع شوكي بديل، تكلّف 50 ألف دولار، ثم أتت المفاجأة: بسبب العناية السيّئة وغير السليمة التي تعرّض لها، تطلّب الأمر مبلغ 120 ألف دولار للقيام بالعملية. «طرقنا كل الأبواب»، يقول عمه الذي أشرف على علاجه مباشرة، بسبب تردّي حالة الوالد الصحية. «جهات سياسية (يسمّيها) رفضت مساعدتنا وماطلت بنا، وحدها وزارة الصحة اللبنانية باغتتنا بتقديم مساعدة بقيمة 10 آلاف دولار آنذاك»، مؤكداً أن بعض الجمعيات الإنسانية ساعدت بالقليل أيضاً، لكن الكثير كان من الداخل، «قمنا بجمع الأموال من كلّ من نعرف من أقارب ومن أهل المخيم».
جرت العملية في مستشفى المقاصد، حيث بُدِّلت الصفائح الدموية، وبدأ علي عيسى يعود إلى حالته الطبيعية تدريجاً. اليوم، وبعد أربع سنوات على علاجه، يريد علي العودة إلى المدرسة، وأهالي المخيّم يشكون تكرار هذه الحالات التي يضطرون فيها دائماً إلى الاستعانة بمصادر غير رسمية لمساعدتهم، وأحياناً بعضهم لا يقدر. تجدر الإشارة إلى أن قسماً كبيراً من ثمن العملية دُفع بواسطة متبرّع مجهول أنقذ علي من دون مقابل.
من يضمن لأطفال المخيّم أن يجدوا متبرّعاً كهذا كلما اقتضت الحاجة؟