نقولا ناصيف
رغم الآمال المعقودة على المهمة الجديدة للأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى في بيروت نهاية هذا الأسبوع، تبدو سلسلة المبادرة العربية كأنها أضحت من الماضي أو تكاد. على الأقل في المدى المنظور في انتظار تطور يفاجئ الجميع، لبنانيين وإقليميين، وينتزع منهم الموافقة على المضي في التسوية السياسية من خلال المبادرة أو سواها. ذلك أن ما صدر عن قوى 14 آذار في ساحة الشهداء بحصر أولوية الحل في انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، والتهديد الذي أطلقه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله عن «حرب مفتوحة» مع إسرائيل رداً على اغتيال القائد الأمني في الحزب عماد مغنية، جعلا المبادرة العربية في حكم المعلقة حتى إشعار آخر، بعدما عدّل كل من طرفي النزاع أولوياته وتجاوز آلية المبادرة إلى خيارات أكثر تعقيداً، ولا تفضي في أي حال إلى التسوية.
وإذ تظهر الغالبية تمسّكها بسليمان رئيساً للجمهورية دون التنازل عن شيء من شروط الحل، وجّه حزب الله اهتماماً استثنائياً منذ اغتيال مغنية إلى واقعه هو الأمني، وقد لامسه اختراق خطير لم يشعره بتهديد قادته فحسب، بل أيضاً بمسؤوليته المباشرة والحصرية عن حماية هؤلاء، انطلاقاً من حاجته إلى حماية نفسه. الأمر الذي يوصد الأبواب أمام أي موقف يسلّم للسلطة بدورها الأمني. كذلك هي حال الاستراتيجيا الدفاعية كأحد بنود الحوار مع الموالاة، إذ باتت بدورها من الماضي، وقد قرّر الحزب المضي بالمواجهة مع إسرائيل وإقفال مربعه الأمني.
على أن موقف الحزب هذا، بعد ساعات من اغتيال مغنية في 13 شباط، وضع أفرقاء الداخل جميعاً، السلطة والموالاة والرئيس ميشال عون، أمام خيار مربك هو ما عناه نصر الله عن اتهامه إسرائيل بأنها خرقت قواعد اللعبة النافذة منذ أكثر من عقدين، ما سيحمل حزب الله على وضع قواعد مختلفة للعبة للمواجهة مع الدولة العبرية، وقد اتهمها باغتيال مغنية. ذلك أن مغزى ما قصده نصر الله سقوط تفاهمين أمنيين أحدهما غير معلن عام 1986، والآخر معلن عام 1996، كانا قد رسما حدود المواجهة هذه ونطاقها، وكان فيها أيضاً، إلى الحزب وإسرائيل، طرفان آخران نافذان ومعنيان مباشرة، هما سوريا والولايات المتحدة التي هي شريك إسرائيل في اغتيال مغنية تبعاً لاتهام الحزب. والتفاهمان المقصودان هما:
ـــــ تفاهم 1986 الذي ثبتته عودة الجيش السوري إلى بيروت في شباط عامذاك إثر اندلاع اشتباكات الأحياء بين حليفي دمشق الحزب التقدمي الاشتراكي وحركة أمل. إلا أن الجانب الآخر من خطة ضبط الاستقرار في المناطق التي انتشر فيها الجيش السوري من بيروت والضاحية الجنوبية، ضمن إحياء التفويض الأميركي لدور سوري واسع النطاق في لبنان، فصل منظمة الجهاد الإسلامي عن حزب الله ـــــ وكلاهما نعتا بالتنظيم الأصولي الإرهابي ـــــ بحيث تعد سوريا ترتيبات داخلية في لبنان تطمئن الأميركيين إلى دورها المستعاد، فتمسك بمنظمة الجهاد الإسلامي المتهمة بالهجمات الإرهابية على الأميركيين والفرنسيين عام 1983 وتعطّل دورها بوضعها تحت المراقبة السورية، وتضفي صفة المقاومة على حزب الله بعد تنقيته ممن وُجِدوا مسؤولين عن تلك الهجمات، ومنهم مغنية.
كانت قواعد المواجهة بين حزب الله وإسرائيل تستند إلى واقع مقاومته الاحتلال داخل لبنان، فكان أن اختفت تماماً، وفجأة، منظمة الجهاد الإسلامي. اختفى أيضاً مغنية بأن حُصرت إقامته بين دمشق وطهران، فلم يعد يظهر في بيروت، أو على الأقل قلة نادرة تعرف بحضوره في بيروت إذا حضر، ومتخفياً. كذلك اختفى أي أثر لعلاقة مغنية بحزب الله علناً، شأن سائر المسؤولين الكبار في الحزب، إلى أن تأكد موقعه البالغ الخطورة والأهمية في مقدّم صفوف الحزب، وإلى حدّ اعتباره إثر اغتياله ثاني الأوّلَين بعد نصر الله، ما كشف علاقته الهرمية بالحزب ونفوذه وفاعلية تحرّكه، بما في ذلك خططه في مواجهة حرب تموز 2006. منذ عام 1986 أضحى مغنية جسر علاقة دمشق بطهران، وجسر علاقة دمشق بحزب الله، ولكنه مطلوب من الأميركيين والأوروبيين.
ـــــ على نحو مماثل، استكمالاً لتفاهم 1986، اعترف تفاهم نيسان 1996 بحق المقاومة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، على أن تكون هذه وجهاً لوجه ولا ينتقل الصراع إلى ما وراء الحدود، مع تجنيب المدنيين لدى الطرفين وزره. كان الأميركيون والسوريون شركاء متساوين في هذا التفاهم توصلاً إلى تحقيق الهدف نفسه للتفاهم السابق، وهو ضبط سوريا التيارات المتشددة والسيطرة على أمن الجنوب بالتزامن مع إمساكها بالاستقرار الداخلي. كانت قواعد هذا التفاهم المواجهة العسكرية في مزارع شبعا وعند الحدود الدولية قبل رسم الخط الأزرق للأخيرة عام 2000.
إلا أن اغتيال مغنية عدّه حزب الله قلباً لقواعد التفاهمين رأساً على عقب. انتقلت المواجهة العسكرية من الحدود التي أصبحت منذ عام 2006 بإشراف القرار 1701 إلى ساحة أمنية أخرى، هي اغتيال قائد عسكري كبير في الحزب خارج الأماكن التقليدية للمواجهة، أي في دمشق. الأمر الذي حسبه نصر الله خرقاً لقوانين اللعبة، مع إدراكه أن الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية نجحت أكثر من مرة في تصفية مسؤولين أمنيين بارزين في الحزب، مجهولي الهوية وغامضي الأدوار والفاعلية، في قلب الضاحية الجنوبية بتفجير سياراتهم المركونة قرب منازلهم داخل المربع الأمني. فإذا باغتيال مغنية ينبئ بالمنحى الذي لوّح الأمين العام للحزب باللجوء إليه، وهو الانتقال بالصراع مع إسرائيل من المواجهة العسكرية المباشرة، المتعذّرة انطلاقاً من الجنوب الواقع تحت سيطرة القرار 1701 ـــــ اللهم إلا إذا أقدمت الدولة العبرية على انتهاكه ـــــ إلى المنازلة الأمنية خلف الخطوط. وتغدو الحرب الأمنية عندئذ واحداً من مصادر القوة التي يريد الحزب التسلّح بها للحؤول دون تصفية قادته وموقعه في معادلة القوة مع الدولة العبرية، وسعياً إلى إرساء توازن ردع جديد في صراعه معها، تجعله يشيح بوجهه عن الداخل.
ذلك هو ما يقلق قوى 14 آذار من مصير السجال القائم بينها وبين المعارضة، وخصوصاً مع حزب الله، منذ أكثر من سنة، وقد أضحى أكثر تعقيداً من قبل، لأن نصر الله نفخ فيه روح التهديد مجدّداً.