نقولا ناصيف
عشية عودة الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى إلى بيروت، من غير أن تنتظره بالضرورة آمال كبيرة، تحرص مصادر دبلوماسية غربية على التعامل مع هذه العودة بإيجابية مبالغ فيها. وإذ تقول إنه لا بديل من المبادرة العربية في الوقت الحاضر، تتجنّب الخوض في الإخفاق الذي تتخبط فيه. وأكثر من أي دبلوماسية غربية أخرى مهتمة كفرنسا على الأقل التي تستمر في الرهان عليها، تبدو الدبلوماسية الأميركية أكثر إدراكاً لوطأة المأزق الذي يضرب المبادرة انطلاقاً من اعتقاد واشنطن بأن مبادرة الجامعة العربية ذهبت إلى أبعد مما هو مطلوب منها. وبسبب ذلك تجاهلتها تماماً مذ أطلقت في 5 كانون الثاني الفائت، إلى أن اضطرت قبل أيام لتقديم إيضاحات حيالها، أضافت إلى غموض الموقف الأميركي منها غموضاً.
وعلى خطى سلفها، السفير جيفري فيلتمان، فإن القائمة بالأعمال الأميركية الجديدة ميشال سيسون لم تحدث بوصولها إلى بيروت قبل أسبوعين صدمة. ولم تأتِ تماماً، أو في أبسط الأحوال على نحو كاف، بتعديل رئيسي في أسلوب عمل سلفها. قبل أن تصل إلى مركز عملها عقدت اجتماعات طويلة مع وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس ومع فيلتمان للاطلاع على الملف اللبناني بدقة. وقبل ذلك اطلعت لأسابيع طويلة على تقارير فيلتمان، انطلاقاً من القاعدة القائلة إن تغيير سفير لا يغيّر في السياسة المتبعة حيال بلد عمل هذا السفير. ولأن فيلتمان ترك لها أصدقاء سياسيين كثيرين، وأعداء سياسيين كثيرين، سلكت وفق الخطة التقليدية: التحدّث مع الأفرقاء اللبنانيين جميعاً، باستثناء حزب الله. في الأيام الأولى من جولاتها على المسؤولين اللبنانيين كان لديها أمامهم كثير من الأسئلة التي تحتاج إلى أن تعرف عنها. إلا أن سيسون تدرك كذلك ـــــ إذ تعوّل على أسلوبها في العمل والمقاربة ـــــ أن ما تراه واشنطن مهماً في لبنان ـــــ ومن أجله ـــــ لن يتغيّر أبداً. قد يعجب البعض ذلك، وقد لا يعجب البعض الآخر. تبعاً لهذا لم تبدأ من الصفر.
إن ما تريده واشنطن من المبادرة العربية، في تقدير مصادر دبلوماسية غربية، بندها الأول المتعلق بانتخاب رئيس جديد للجمهورية من دون الخوض في البنود الأخرى. وهو ما يجعلها تقصر موقفها منها على القول إنها تدعم هدف المبادرة هذه الذي هو انتخاب الرئيس. ومع أن هذا الهدف سابق للمبادرة، فإن الدبلوماسية الأميركية، إذ تقلِّل في الظاهر من تردّدها حيالها، وبإزاء البندين الآخرين المتصلين بتأليف حكومة وحدة وطنية ووضع قانون جديد للانتخاب اللذين يوجب التوافق عليهما ـــــ كما على البند الأول بالضرورة ـــــ فتح قنوات حوار مباشر مع دمشق، ترى أن التحاور مع هذه ليس ضد سياسة واشنطن «لكن السوريين لا يعاملون لبنان باحترام، ولا ينظرون إليه على أنه دولة مستقلة، ويتدخلون في شؤونه».
تقود وجهة النظر الأميركية هذه، بحسب المصادر الدبلوماسية الغربية، إلى تحديد موقف أكثر وضوحاً من المبادرة بالاستناد إلى معطيات، منها:
1ـــــ أن للانتقال من البند الأول في المبادرة إلى البندين التاليين آلية دستورية يجب احترامها. إلا أن أولى الخطوات، مستقلة عما يليها، هي انتخاب رئيس جديد للجمهورية. هذه الآلية الدستورية يقتضي أن يسلّم بها الأفرقاء اللبنانيون جميعاً بلا استثناء. بيد أن المثير لاستغراب الدبلوماسية الأميركية ملاحظتها «وجود أطراف لبنانيين لا يقبلون بمثل هذا المنطق والتدرّج الدستوريين الطبيعيين».
2ـــــ يطبع الموقف العام لواشنطن من المبادرة غموض وتردّد مغزاهما أن الأميركيين يدعمون الحل العربي للأزمة الدستورية اللبنانية إذا أفضى إلى النتيجة المتوخاة، وإذا قبل به طرفا النزاع. وفي أبسط الأحوال قبول قوى 14 آذار بهذه النتيجة.
3ـــــ تعتقد واشنطن أن توزيع السلطة في لبنان ليس قراراً أميركياً، ولكنه ليس قرار أي فريق خارجي آخر، بل هو قرار اللبنانيين وحدهم. مع ذلك فإن الحدود القصوى لموقف أميركي من توزيع السلطة بين أفرقاء النزاع، هو أن «وجود أكثرية نيابية انبثقت من انتخابات عامة حرّة ينبغي عدم مساواتها بمن لا يوازيها في تمثيلها، بيد أن القرار متروك للبنانيين أن يختاروا ما يريدون، حتى لو قالوا بما يعاكس هذه النظرة». ويعبّر هذا الموقف ضمناً عن عدم حماسة أميركية لتوسّع المبادرة العربية في ما يتجاوز المشكلة الملحة في لبنان، وهي عدم وجود رئيس. إلا أن الحل العربي توغّل أكثر في المشكلة وربط انتخاب الرئيس بإجراءات أخرى لا تمت إلى هذا الانتخاب بصلة، من خلال الخوض في تأليف حكومة جديدة ووضع قانون جديد للانتخاب.
وما تلاحظه المصادر الدبلوماسية الغربية في الموقف الأميركي أن الحدود التي ترضى بها واشنطن لدور الجامعة العربية، هي ألا يتحوّل إلى تدخّل إكراهي في شؤون اللبنانيين. مع ذلك لا تقلل الدبلوماسية الأميركية من أهمية زيارة مساعد وزيرة الخارجية الأميركية للشرق الأدنى دافيد ولش، قبل أسابيع، لموسى في القاهرة في خطوة تلاحظ واشنطن أنها مهمة في ذاتها، لكونها تحدث للمرة الأولى. لم تعتد الخارجية الأميركية التحدّث مباشرة مع الجامعة العربية. ويبدو هذا التصرّف متصلاً بتمسّك واشنطن بتحديد أهداف واضحة وغير مشتتة للمبادرة العربية، وهي مساعدة اللبنانيين على انتخاب رئيس جديد للجمهورية.
4 ـــــ لا تتردد الدبلوماسية الأميركية في القول إنها لا تطلع من موسى على نتائج تحرّكه في لبنان، على غرار ما يعلم الفرنسيين به. وبذلك تقتصر المعلومات التي تصل إليها على الجهود التي يبذلها السفير في القاهرة فرانك ريكيادوني من خلال اتصالاته بالجامعة العربية، أو بشخصيات ذات اطلاع واسع للحصول على المعلومات المطلوبة. تالياً، خلافاً لانطباع شائع في هذا الصدد، ليس ثمة تنسيق بين واشنطن وموسى حيال المعالجة العربية للأزمة اللبنانية.
ولأنه لا تنسيق، فلا ردّ فعل سلبياً ولا موقف بالضرورة من المبادرة، ولا حماسة حيالها شأن الفرنسيين الكثيري المبالغة والاندفاع، ما خلا ما يؤكده المسؤولون الأميركيون المعنيون، وهو انتخاب رئيس جديد للبنان أولاً. ذاك ما يبدو مطلوباً حصراً من المبادرة.