نقولا ناصيف
تكاد تكون الخلاصة الوحيدة لجولة المشاورات التمهيدية التي أجراها السفير هشام يوسف، مدير مكتب الأمين العام للجامعة العربية، في بيروت خلال اليومين المنصرمين، هي استنتاجه أنه لا حل وشيكاً في لبنان، ولا أحد يريد تفجير الوضع برمته. وفي حصيلة هذه المشاورات، تأكد يوسف من تمسّك الموالاة والمعارضة بتصلّبهما وشروطهما، يربط بينهما خيط وحيد رفيع، يكاد يكون وهمياً، هو استمرار تأييد انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. لا بديل منه، وفي الوقت نفسه لا يُنتخب، ولا تنجز التسوية من حوله ولا من خلاله. هو إذاً الخيط الذي ترخيه قوى 14 آذار، وتشدّه المعارضة.
على أن مشاورات يوسف أفضت كذلك إلى تثبيت وقائع سياسية عدة تجعل الحل مؤجلاً إلى أمد غير قريب على الأقل. وقد يكون أبرزها:
1 ــــ حاجة الأمين العام عمرو موسى إلى إجماع عربي جديد على طريقة إدارته التفاوض مع الأفرقاء اللبنانيين، من دون الوقوع في فخ شروطهم، وخصوصاً حيال تنفيذ البند الثاني من مبادرة الجامعة العربية، وهو تأليف حكومة وحدة وطنية وتوزيع الحصص على فريقي النزاع ورئيس الجمهورية. ذلك أن التفسير الذي قدّمه موسى عن البند الثاني من المبادرة، عشية زيارته بيروت في 9 كانون الثاني الفائت، فَقَد الإجماع العربي عليه في اجتماع 27 كانون الثاني من غير أن يقترح وزراء الخارجية العرب فكرة أخرى. وأخرجوا البيان الثاني بغموض والتباس، فلم يعد في وسع موسى تسويق تفسيره، ناهيك بأن الاجتماع الثاني للوزراء العرب فوّض إليه مهمة أعادت جهوده إلى نقطة الصفر التي هي معالجة نسب التمثيل في تأليف حكومة الوحدة الوطنية.
تالياً، فإن المهمة الجديدة لموسى في بيروت تحتّم عليه البدء من اقتراحات جديدة تتجاوز تفسيره البند الثاني (13 + 10 + 7)، ولا تتبنى بالضرورة معادلة 10 + 10 + 10 التي ترفضها الموالاة وتصر عليها المعارضة. مغزى الاشتباك المحيط بالبند الثاني أن الموالاة والمعارضة على السواء غير مستعدتين بعد للتسوية. وفي أبسط الأحوال تبدوان عاجزتين كلياً عن إنجازها دون تدخّل خارجي.
2 ــــــ لن يُقدم موسى، ولا الجامعة العربية، على نعي المبادرة قبل أن يتولّد بديل منها. وعلى غرار المبادرة الفرنسية التي استمرت بين أيلول وتشرين الثاني المنصرمين تتخبّط في فشلها، إلا أنها لم تشهر إخفاقها إلا بعدما طفت على سطح الجهود والوساطات دعوة مصر والسعودية إلى اجتماع الوزراء العرب لوضع حل للأزمة اللبنانية. خلفت المبادرة العربية تلك الفرنسية، واصطدمت بالعقبات نفسها. واجهت باريس مشكلة التفاوض الصعب مع دمشق لتسهيل الحل العربي ففشلت، وواجهت الجامعة المواجهة غير المسبوقة تاريخياً بين السعودية وسوريا. وهكذا تستمر المبادرة العربية في إدارة المساعي والنزاع وتأجيل الانفجار إلى أن تملأ فراغها مبادرة بديلة.
3 ــــــ عندما اعترف موسى ــــ ولم تكن هذه المرة الأولى ــــ بوجود مشكلة عربية تلقي بثقلها على الأزمة اللبنانية، كان يكرّس بذلك عجزه عن مواجهة حدّة الخلاف الناشب بين الرياض ودمشق على الأرض اللبنانية. وللمرة الأولى في تاريخ علاقتها بجيرانها العرب، تظهر السعودية مظهر الدولة القادرة على خوض مواجهة مكشوفة وشرسة وربما تمضي بها إلى نهايتها، متخلّية عن الصورة التي طبعت دورها لأكثر من نصف قرن من انخراطها في مواجهة الخلافات العربية ــــ العربية. ومنذ ما بعد ثاني ملوكها سعود في منتصف الخمسينات حتى عام 2005 مع الملك فهد، لم تضطلع المملكة إلا بدور الوسيط في نزاعات الدول العربية. تجنّبت في الوقت نفسه الانحياز إلى دولة عربية ضد أخرى، ما خلا حقبة توتر العلاقات في الستينات عندما واجه فيصل ــــ ولياً للعهد ثم ملكها الثالث ــــ الرئيس جمال عبدالناصر في اليمن، من غير أن يقاوم نفوذه في لبنان الذي جعل مسلمي لبنان ناصريين في العقيدة، إلا أن أنهم سلموا بجدّة حينذاك مرجعية دينية ومصدراً سخياً وغزيراً للمساعدات المالية.
وفي أكثر سني النزق السوري في لبنان، منذ منتصف السبعينات حتى نهاية الثمانينات من القرن الفائت، لم يواجه العرش السعودي نظام الرئيس حافظ الأسد وجاراه لأسباب اتصل بعضها بتفويض دمشق وضع اليد على لبنان، والبعض الآخر بالخوف والهلع اللذين ألقاهما النظام السوري حينذاك في الأنظمة العربية المجاورة. لكن المعادلة انقلبت رأساً على عقب في العلاقات السعودية ــــ السورية إثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري والتكهنات المحيطة بدور دمشق في الاغتيال، أضف تردي العلاقات الشخصية بين الملك عبد الله والرئيس بشار الأسد، وصولاً إلى تسابقهما على ترجيح كفة السيطرة على لبنان من خلال فريقي النزاع المحليين، اللذين يدين كل منهما بموقعه وخياراته لإحدى هاتين الدولتين العربيتين المتصارعتين على الزعامة والنفوذ الإقليمي والإمساك بملفات لبنان والعراق وفلسطين والعلاقات مع إيران.
وهو ما يعبّر عنه حالياً المخاض الصعب الذي ينتظر القمة العربية في دمشق في 29 آذار المقبل. ولا تبدو المشكلة ظاهراً في انعقاد القمة أو إلغائها، بل في نجاحها أو إخفاقها. في حصيلة الأمر، قمة عربية من دون الرياض كقمة عربية من دون دمشق. لا تكتفي بالفشل، بل تضاعف حدّة الخلافات العربية ــــ العربية التي تبحث إذذاك عن البطن الرخو لخوض المواجهة غير المباشرة.
وهو مغزى السجال الحاد بين قوى 14 آذار والمعارضة اللتين أضحتا البطن الرخو الثمين.
4 ــــــ ليس في وارد أي من طرفي النزاع الداخلي الدخول في مواجهة مكشوفة لا رجعة عنها في الشارع، وتحمّل وزرها في الوقت نفسه. إلا أنهما لا يمانعان في تبادل الرسائل الأمنية وعرض عضلات اقتناء السلاح ــــ بل حتى استخدامه ــــ على طريقة الاشتباكات المذهبية في الأحياء والزواريب التي شهدتها التخوم السنّية ــــ الشيعية الأسبوع الفائت. والواضح أن كلاً منهما يدرك أنه لا يخوض ضد الآخر معركة أيهما الأكثر تمثيلاً في المؤسسات الدستورية، بل معركة توازن القوى في الشارع، من غير أن يسعه وحده حسم الصراع في الشارع والسلطة في آن معاً. وهو كذلك حسم صراع الخيارات بين الدولتين المشتبكتين في البطن الرخو.