أنسي الحاج
لمَن يريد التدارك
كان كلّ شيء قد صار شكّاً وها هو يتحوّل تحت سمعنا وبصرنا إلى يقين.
وكلّ فريق يتّهم الآخر بأنْ «ليس له ربّ». وتَرْجمتها الدمويّة: حلال قَتْلُه.
عام 1975 نشأت الحرب من نفاد الصبر. بيار الجميّل العصبي وكمال جنبلاط المُحَرقِص. «ليربح الأقوى». تلك العبارة التي يقولها الذي طفح كيله من جدليّات خصمه، يقولها باندفاعة الغاضب ويغوص فيها بإمعان المنتحر. المنتحر هو وخصمه آخذين معهما الراغب والرافض.
اليوم انعكست الآية: هو وليد جنبلاط مَن طفح كيله من «حزب الله» وميشال عون. جنبلاط والحريري وجعجع والجميّل. ظاهريّاً لأن المعارضة تجاوزت حدودها في إحباط مشاريع التسوية وفعليّاً لأن سوريا وإيران تجثمان بكلّ ثقلهما في «الساحة اللبنانيّة» بينما أميركا وفرنسا والسعوديّة ومصر لا تستطيع أو لا تريد أن تجثم إلاّ بالإرشادات الرسوليّة.
يجب أن تدرك 8 آذار ذلك إذا أرادت أن تتدارك التدهور. لو فهم ياسر عرفات وكمال جنبلاط تلك الحقيقة عام 1975 لما انفجر «الفريق الآخر». حتّى لو قلنا إن إسرائيل كانت تشجّع «الفريق الآخر» على الانفجار وإن سوريا تشجّع المعارضة اليوم على «حَقْن» 14 آذار للانفجار. إذا ظللنا نختبئ وراء سوريا وإسرائيل فمعنى ذلك أننا ندعو أنفسنا إلى الاستسلام، وندعو سوريا وإسرائيل إلى إعادة احتلالنا.
الزعماء هم الذين نفد صبرهم بعضهم من بعض وليست فئات الشعب. فئات الشعب نفد صبرها من الزعماء لا من بعضها البعض. ونفد صبرها من البطالة والهجرة وصراخ الشاشات ومن الاستغباء وانعدام الحسّ. ولولا الشَّحْن والمال لما وُجد فتىً ليحمل عصا في بيروت المسكينة ولبنان المغدور.


حزازير
تقول إحدى النظريّات إن الأميركيين أوصلوا بوش 2 لأنهم أغبى منه. في رأينا أن هذا التقدير أشدّ سذاجة من المدّعى عليهم بالسذاجة، لأنه يفترض أن هناك ملائكة ينتظرون كلّ نهاية ولاية لينتخبوا بكامل حريّتهم مَنْ يضحك عليهم، أو ليختاروا أشدّهم غباوة. ننسى أن هذه أميركا، الشركة الكبرى القابضة على كلّ الشركات والعروش والحكومات والجيوش والطوائف والمطاعم والملابس والأغاني والأفلام وكيف تأوي إلى فراشك.
تقول نظريّة ثانية إن الموقف الأسلم هو الاستسلام لحكم الإله الأميركي دون شغل الرأس بما لا يقدر عليه. دون شغل الرأس، مثلاً، بحزازير من نوع استعصاء القبض على بن لادن والظواهري، استعصاء حسم المجزرة العراقية، استعصاء حسم المباراة السوريّة ـــــ الإيرانيّة وقبلها السوريّة ـــــ الإسرائيليّة في كرة القدم اللبنانيّة، وغيرها من الجبهات التي تخوض فيها أميركا معارك يا قاتل يا مقتول.
يا قاتل مِن أميركا وشركائها الإقليميين ويا مقتول دائماً معروف مَن.


ذكريات مع سهيل إدريس
تزدحم الذكريات. قليلة ومحتدمة. هجوم يقابله سخط. تخوين يستولد تبنّياً للخيانة. سلطة عروبيّة مرتدية عصريّة ملتبسة (وجودية معرّبة) تشكل محكمة رأي تُصدر أحكاماً قاطعة بالتحريم والتكفير (الأدبي، المنطوي على غير الأدبي).
الحرب بين «الآداب» و«شعر» كان معظمها المباشر، في الواقع، بيني أنا وبين «الآداب» وبواسطة جريدة «النهار» أكثر من مجلة «شعر». لقد وجدتُ في «الآداب» مجسّماً لكل الأصوات العروبيّة والشيوعيّة والبعثيّة التي حاربتني في بداياتي ولم ترَ في دعواتي إلى التجديد وفي تجديداتي سوى المراهقة والشعوبيّة والتآمر على التراث. كان سهيل إدريس موهوباً في العَقْص والاستفزاز. وكنت أنا، دون سائر الأجلّاء في «شعر»، الأكثر قابليّة للانفعال. وعندما تلاقينا بعد ذلك بثلاثين سنة في منزله إلى عشاء على شرف حنان الشيخ، وبعدها إلى عشاء آخر في أحد مطاعم الروشة على شرف نزار قباني، لم يكن قد بقي من تلك المعارك سوى ما بقي رغماً عن صَفْحنا. وفي عشاء منزله استعاد حماسة الصبا حين نظّم اللقاء الشهير في بيروت بين طه حسين ورئيف خوري حول الالتزام في الأدب، وحاول إقناعي بقبول فكرة جمعي أنا والجواهري في مناظرة حول الشعر، «سيحضرها الألوف والله، وصدّقني ستكون حدثاً!».
أتخيّل سهيل إدريس معنا في مجلة «شعر». كان سيكون فيها الروائي الناقص، ولو أننا، في «شعر»، لم نكن من المعجبين بأدب سارتر ووجوديّيه. مع هذا كان وجوده معنا سيحرمنا وجوده ضدّنا. ووجوده ضدّنا كان ضروريّاً. فلولاه لبقيت أعصاب كثيرة خاملة، وأسلاك مقطوعة الكهرباء. كان هو أحد أهم الحواجز التي تعيَّنَ علينا أن نتغلّب عليها، وبه وبالعديد من النقّاد والشعراء الذين أيّدوه في رفضنا، رَأَيْنا بوضوح أكثر أين نحن. وأضعنا وقتاً أكثر. وذلك أضعف الإيمان.


ضريبة صاحب السهمين
لمناسبة رحيل سهيل إدريس: عادة المماهاة بين وفاة الشخص و«وفاة» مرحلة. كأن يقال: بموت جبران مات الأدب المهجري. بموت إلياس أبو شبكة انطوت صفحة الشعر العربي الرومنتيكي. بموت توفيق الحكيم مات المسرح المصري. إلخ.
أحياناً يكون ذلك صحيحاً. حين يكون الفقيد من نوع أم كلثوم يمكن القول: انتهت مرحلة كذا من الطرب. أو طه حسين. أو الجواهري. لأن كلّاً من هؤلاء هو لبّ حقبته ونجمها الساطع. أي أنه في الحقيقة ليس جزءاً من حقبة بقدر ما أن الحقبة هي جزء منه.
في حالة سهيل إدريس نستطيع القول إن مرحلته ـــــ العروبة «الوجوديّة» والعَصْرنة العروبيّة ـــــ انتهت قبل اندلاع الحرب اللبنانيّة عام 1975، وبالتحديد حوالى هزيمة 1967. نشطت «الآداب» وحرّكت محيطها إبّان صعود الحماسة العروبيّة (مترافقة مع فورة ترجمة مؤلفات سارتر وكامو ودو بوفوار) وأخذت تتراجع منذ اصطدمت بحدودها التحديثيّة، على الأخصّ في الحقل الشعري.
خلال سنوات ظلّت «الآداب» الشهريّة أكثر حيويّة من أية جريدة يوميّة، كل صفحة منها بوقع كتاب. وكان أخطر منابرها ذلك المسمّى «قرأت العدد الماضي من الآداب» حيث يتولّى أديب من الأدباء كلّ شهر غربلة كُتّاب العدد السالف. كانت تلك سابقة مخيفة وممتازة، جعلت راغب النشر في المجلة يحسب ألف حساب.
سيظلّ يُظلَم سهيل إدريس كلّما، في الحديث عنه، طغت مجلّته. إنها ضريبة صاحب السهمين: واحد يفترس الآخر. لا بدّ من إعادة قراءة «الحي اللاتيني» وأخواتها روايات وأقاصيص. ولا بدّ من جمع مختارات بين المقالات. سهيل إدريس ليس فقط مجلّة «الآداب». ليس فقط الآخرين.


لا وجود لنرجس
يذهب المرء إلى مكان آخر ليقتل نفسه تحت هيئة شخص آخر. يلبس الروسي ثيابه العسكريّة ويقتل نفسه في أفغانستان تحت هيئة الأفغاني، والأميركي في العراق، والإسرائيلي في فلسطين، والفلسطيني في إسرائيل.
ينظر إلى المرايا البعيدة فيبصر غرباء فيُفرغ عليهم حقده على نفسه. يذهب إلى كلّ مكان ليقتل نفسه. تحت هذا اللغز البشري المتواصل كالنهر الأكبر، سأمُ الإنسان من ذاته. سأمٌ تولّاه بعدما رأى نفسه. نرجس، الذي افتتن بصورته في الماء، خرافة للعزاء. لا وجود لإنسان بهذه الخفّة. المرآة مذ رأت الإنسان قضت عليه.


عابرات
إنْ لم تُسْتَجَب فالخاسر أكبر منك، وإذا استُجِبتَ فالرابح أكبر منك.
***

دانت لكِ النِعَمُ الثلاث: الحقّ والجمال والحبّ. ورابعها الصدفة، الوجه الأشدُّ تحييراً، غداً، في متحف الذكريات.
***

يرتفع الصوت من حنجرة المذْنب وينخفض في حنجرة البريء. قد يُضمر الخَجول ولكنْ كما تضمر الوردة أو العصفور، أمّا الجَسور فيوهِمُ بالكرامة، أخبث الأقنعة.
***

الصدى كان صوتاً
الصوت يذهب، الصدى يعود.
ما كان، يعود.
يعود
ولا يجد مَصْدَره.