strong>ربى أبو عمو
•ترك دراسته ليبيع الجرائد... فخرّج ثلاثة جامعيين

عايش نعيم صالح شارع الحمرا منذ الستينيات وحتى اليوم، من خلال «بسطة» للصحف والمجلات، فاخترق أسراره وبات أحد معالمه. هو الجار الأوفى لمقهى الـ «الكافيه دي باري»، وهو أيضاً أحد الذين حملوا السلاح في فترة الحرب متجاوزاً الخوف الذي عاد إليه بعد زواجه بـ«فطومة»

ابتسامة خجولة تكتسي ملامحه حين يدرك أنه بحق جزءٌ من تاريخ شارع الحمرا، الذي أسهم في بناء شخصيته، ورسم الصورة التي يجسّدها نعيم اليوم. العودة إلى ماضيه تسبّب له نوعاً من المشقة. «أحتاج إلى مجلّدات»، يقول.
يتنهّد. عيناه تراقبان قدوم أي زبون. قبل البدء، يقاطع صمته متسائلاً: «هل لا يزال زياد (الرحباني) يكتب في الأخبار؟ زياد صاحبي». يضحك. «حيّاني منذ فترة قريبة أثناء مروره في الحمرا. رأى سيارتي الستايشن الزرقاء، فسألني أن أبيعه إياها»... يضحك مجدّداً.
يبدو فخوراً بمعرفة زياد وآخرين، بعدما مثّل عمله بائعاً متجوّلاً للصحف، صلة الوصل بينه وبينهم. بلهفة، يشرح أنه كان يملك سيارة بالمواصفات نفسها قديماً، استبدلها بواحدة أحدث، «لهذا سألني زياد عنها».
يصمت مجدداً، ويبدأ سرد ماضيه برشاقة. يدعى نعيم صالح، هو ابن بلدة تبنين الجنوبية. انتقل والده إلى بيروت في أربعينيات القرن الماضي باحثاً عن فرص لحياة أفضلفي ذلك الوقت، كانت كلّ بلدة تشتهر بمصلحة معينة، و«كانت لتبنين وجهة ثقافية تمثّلت في بيع الصحف والكتب». هكذا بدأ أبو نعيم العمل في باب ادريس، كبائع لصحف «النهار، العمل، لسان الحال، الحياة، الجريدة، والـ orient»، إلى أن استقرّ في «بسطة» للصحف والمجلات في شارع الحمرا، اتخذت مبنى الـ «domtex» مقرّاً لها ونقطة انطلاق للتوزيع. أنجب 10 أولاد، بينهم 9 ذكور، وكان للجميع دورهم في مساعدته.
بدأ نعيم مساعدة والده وهو في التاسعة من عمره، عام 1964. كان يستيقظ في الثالثة صباحاً، ويباشر التوزيع قبل أن يذهب إلى المدرسة، ليعود بعد انتهاء الدوام إلى العمل. عمل وإخوته بالتناوب، فكان بعضهم يعمل خلال النهار، بينما يبقى نعيم والجزء الثاني منهم حتى الواحدة ليلاً. يستذكر دراجة الـ«هيرغل» التي كان لها «نمرة»، «كانت أرقى وأجمل وسيلة للعمل». يقاطعه محمد، الصبي الذي يعمل معه، شارحاً أنها الدراجة التي يستخدمها بائعو الكعك.
يحكي نعيم عن الدراجة كأنها أحد أولاده. يصل إلى مبنى «الأسود»، الذي لم يكن مركزاً للأطباء، بل منازل للأجانب، وخصوصاً الأميركيين والإنكليز. «كنا نحتكر التوزيع للأسود». وعندما أسّس البنك المركزي، «لم يسمح حاكم المصرف آنذاك فيليب تقلا إلّا لنا بالتوزيع داخله».
يحكي نعيم عن البيع آنذاك. «كنا نبيع أعداداً هائلة من الصحف والمجلات. جماعة أبو عمار كانوا يأتون إلي في الواحدة ليلاً لأخذ بعض المجلات. الناس كانوا يقرأون، ونحن نوزع الصحف على البيوت. بعض الناس اعتمدوا على الاشتراك معنا».
في السبعينيات، كان نعيم يدرس إدارة الأعمال في الجامعة اللبنانية، من دون أن يتابع سنته الأخيرة بسبب الحرب. لكن هل هذا ما كنت تريده؟ لا يكترث نعيم للإجابة عن هذا السؤال لأنه اليوم يحب عمله: «أعطاني الكثير. المطالعة شيء رائع وجذاب. يسألني أولادي عن كمّ المعلومات التي أعرفها، والتي اكتسبتها من القراءة. لا أحب الأدب، معظم قرءاتي كانت سياسية وعلمية. دائماً أجلب كتب سلسلة عالم المعرفة العلمية إلى بيتي»لكن «ما حدا ما بيحلم». الأمر كلّه مرتبط بالتوجيه. والده وجّهه نحو بيع الصحف «تجوالاً»، لكن بحسرة خفيفة، أعلن أمنيته: «كانت توجهاتي علمية. علاماتي العلمية هي التي نجّحتني في الماتليم (فرع الرياضيات)». رغم هذا الحلم، أو هذا «الأحسن»، يشعر نعيم برضى عن حياته العملية والعائلية. يتنهّد ويرخي جسده على الكرسي.
الحمرا، الشارع اللاتيني، المثقفون، الحركات السياسية. تتكرّر هذه العبارات على لسان نعيم. كأن هذا الشارع ومضمونه هو كل حياته. هل أنت يساري؟ يسكت للحظات كمن يخشى الاعتراف. «وهل هناك فقير ليس يسارياً؟». حفظ نعيم أغنيات الشيخ إمام ومارسيل خليفة، وكثيرين غيرهم، التي كانت تحمّسهم على الثورة في خضم الحرب والمعارك. لكنه اليوم يستمع فقط إلى «فيروز ثم فيروز ثم فيروز».
خلال الحرب، حمل نعيم السلاح، بعد انضمامه إلى منظمة فتح التي كانت في ذلك الوقت تمثّل بالنسبة إليهم «القضية العربية»، إضافة إلى الصراع ضد المارونية السياسية. وقف خلف المتاريس. كان يترك عمله وجامعته بسبب الحرب. «لم نكن نخاف». أوقف هذا النشاط بعد زواجه. لكن عدم الاستقرار الأمني تطلّب ركن الخوف جانباً. التفجيرات، القنص، «الزعران»، «لا تعتقدي بأن من بقي حيّاً كان بطلاً. إنه الحظ».
الأهم ربما من كل تلك التجارب، هو الصداقات التي كوّنها نعيم مع أبطال الشارع ومثقفيه. عصام العبد الله، شوقي بزيع، اسكندر حبش، بول شاوول، عباس بيضون، وكثيرون غيرهم، لا يزالون يقصدونه حتى اليوم، فيشعر بأن الخير لم ينفد من الدنيا. يبدو سعيداً بهذه الحصيلة من الناس، التي رافقت مسيرته المتواضعة منذ سنوات كثيرة.
نعيم اليوم أب لأولاد ثلاثة، فتاة وشابين. درس ابنه البكر إدارة الأعمال في الجامعة الأميركية، وهو يعمل اليوم في أحد البنوك. أما الفتاة الوسطى، فتدرس الكيمياء في الجامعة اللبنانية الأميركية. «بقي الأخير، وهو أيضاً يدرس إدارة الأعمال في جامعة عبد الرحيم مراد». لم يربِّ نعيم أولاده الثلاثة على أساس طائفي، «فأنا لم أكن طائفياً في حياتي». وبما أن السيرة انفتحت، يرى نعيم أن الوضع في لبنان أخطر اليوم. «قبل، كنا نعرف عدوّنا. اليوم بات خصمنا أحد جيراننا». وبعيداً عن السياسة، يحزنه ابتعاد الشباب عن القراءة. «سألتني ابنتي منذ فترة، من هو موسى الصدر، رغم أنها فتاة جامعية»هل تزوجت عن حب؟ يخفي خجله بضحكة سريعة. «عرفت فطومة في الجامعة، أحببنا بعضنا بعضاً. استطعنا رغم الحرب أن نصنع لقاءاتنا التي استمرت ثلاث سنوات قبل أن نقرّر الزواج». وهل يبقى الحب يا نعيم؟ يدافع بسرعة عن علاقته التي توحي عينيه باستقرارها. «نستذكر الأيام الماضية دائماً. لحظات الحب، الخوف. حين نعدّ أحداث الماضي، نكتشف كم كانت صعبة، وكم تعبنا...»
لا يحب نعيم الكلام في الخصوصيات. إلّا أنه يتذكر حادثة طريفة، ربما تجسّد بصورة ما الأزمة الحالية في لبنان. «فاطمة سنية وأنا ابن الجنوب. وصديقي كان سنياً وأحب فتاة شيعية. عندما أخبرنا أهلنا بأننا نريد الزواج، نصحني أهلي أن أتزوج حبيبة صديقي باعتبارها شيعية، ونصحه أهله أن يتزوّج فطومة لكونها سنية. تعرفين كيف كان الأهل يفكرون. الأفضل أن تتزوّج من ملّتك، وكل هذه المفاهيم والتقاليد. إلّا أنني أصررت على فطومة رغم أنه لم يكن من السهل إقناع الأهل». يوم الأحد للعائلة. يعود إلى بيته في الرابعة تقريباً. «كنت أغلق كشكي في السابعة مساءً. الآن كبرنا وتعبت». ويبتسم، تلك الابتسامة التي لا تفارق وجهه.



مرّوا من هنا

في السبعينيات من القرن الماضي، كان شارع الحمرا أهم شوارع لبنان على الإطلاق. الزينة لها وقع خاص. الناس كانوا مثل النمل، يأتون من كلّ مكان ويعرفون قيمة الشارع. سينما الحمرا، البيكاديلي، المقاهي الممتدة على طول الشارع، كانت دائماً مكتظة.
يقول نعيم هذه العبارات كأنه يلقي قصيدة شعر. فيروز غنت على هذا المسرح، عادل إمام عرض مسرحيته «التي سبقت الواد سيّد الشغّال، لا أتذكر اسمها». لكنه يذكر المهم، «خرج عادل إمام من المسرح وكان الناس يتجمهرون في الخارج. تقدّم منه شحاذ ومدّ يده طالباً منه المال، فتأبّط عادل إمام ذراعه ومشى معه حتى الـred shoe، يمازحه». داليدا أيضاً جاءت إلى هنا «كم كانت قصيرة القامة، ترتدي نعلاً مرتفعاً دائماً».