strong> غسان سعود
•انتقاد لصورة المعارضة وخطابها و«بخلها» ومحدوديّة طبّاخيها

لا يختلف اثنان في الشمال على أن شعبيةتيار «المستقبل» تشهد ضموراً. لكن المفارقة، أن ما من شماليَّين يختلفان على التأكيد أن هذا الأمر لا يعني أبداً تقدماً للمعارضة أو تغييراً في موازين القوى


تركّز المعارضة الشماليّة عملها على مدينة طرابلس، وفي اعتقادها أن التغيير في عاصمة الشمال سينعكس مباشرة على خزانات المستقبل الشعبيّة في عكّار والضنيّة والمنية. لكن في مقاهي المدينة وساحاتها، يتردد كلام كثير، عن إرباك في استراتيجية عمل المعارضة، وتلعثم في خطابها، ومآخذ كثيرة على أدائها.

ورة المعارضة وخطابها

مشكلة المعارضة الأولى في طرابلس تكمن في صورتها الشيعيّة ــــ المسيحيّة وخطابها السياسي، وفق المراقبين. فالمدينة التي لم تحرك ساكناً خلال العقود الثلاثة الماضية إلا تفاعلاً مع الخطاب المذهبي، تنظر (بتوجيه من تيار المستقبل وحلفائه) إلى الرئيس عمر كرامي والداعية فتحي يكن كمجرد ملحقَين بحزب الله، وصاحبَي دور ثانوي جداً في صناعة قرار المعارضة (وهو ما لا يمكن حلّه بتأليف لجنة رباعية لمحاورة عمرو موسى أو بدعوة يكن لأداء صلاة الجمعة في مخيم المعارضة).
ويُقال في المدينة، إن حركة هذين الرجلين بدت خلال السنتين الماضيتين «غبَّ الطلب»، فيغيبان مطوّلاً ثم يظهرا بناءً على حاجة الحزب. وفي رأي شريحة طرابلسيّة واسعة، لم يقبل أبناء طرابلس (أكثر من 90% منهم من الطائفة السنيّة) تاريخياً الالتحاق بزعماء الطائفة السنيّة البيروتيين والصيداويين، فكيف يفترض بهم القبول بزعيمين (العماد ميشال عون والسيد حسن نصر الله) من غير الشمال ومن غير السنّة؟.
ويحضر هنا السؤال عن مكانة سنّة المعارضة في «السيبة» الثلاثية التي يتحدث عنها عون في كل مناسبة، في ظل وعي سياسي شعبي يجعل صغير الشماليين وكبيرهم يعلم أن لا مكان في أية سلطة مقبلة لسنّة المعارضة، وأن أقصى ما يريده نصر الله وعون هو تعزيز حضور طائفتيهما في السلطة. وبالتالي، سيبقى مؤيّدو كرامي ويكن خارج السلطة، حتى لو تمثّلت المعارضة.
هذا في الشكل. أما في المضمون، فيقتطف الناس أمثلة كثيرة من خطابات مسؤولي المعارضة فيها إساءة للطائفة السنيّة، وإصرار على تحجيمها، وتناقض في النظرة إلى دورها. وتبرز هنا الحساسية الطرابلسيّة من مس بعض رموز المعارضة المستمر بالملك السعودي. علماً بأن في الأوساط السنيّة من يجد أن شيعة المعارضة حسموا دورهم كمقاومين لإسرائيل، والمسيحيين كسعاة بناء دولة قوية، أما سنّة المعارضة فلم يحددوا دورهم، وبالتالي لم يرسموا معالم خطابهم. ومشكلتهم الرئيسية تكمن في إصرار بعضهم على الدفاع عن السوريين، الذين ألحقوا بالطرابلسيين ما لم يلحقه نظام عسكري يوماً بشعب احتُلّت أرضه. وثمة تمسّك عند مسؤولي المعارضة، وفق المتابعين، بلغة ناصريّة يفترض أن يقر المسؤولون بعقمها، وعجزها عن استقطاب الجمهور الذي يسأل عن الصرف الصحي في باب الرمل فيجيبونه بقرب موعد النصر على إسرائيل، ويستفسر عن كيفية تأمين الدواء فترد المعارضة بنظرية جيو ــــ سياسيّة ما.
مع الأخذ بعين الاعتبار أن وضع المعارضة خطة واضحة تخاطب حاجات الشماليين فيما يتعلق بالصراع مع إسرائيل، قد يكون له أثر إيجابي، وخصوصاً إذا ما استتبع ذلك خطوات عمليّة، تشعر الطرابلسيين بأنهم لاعبون أساسيون في هذا الصراع.

المال والخدمات

أضف إلى الالتباس في صورة المعارضة وخطابها، يبرز عامل المال. فمنذ مطلع التسعينيات، بدأ يطلق على مدينة طرابلس اسم أم الفقير. وسرعان ما تحوّل اللقب إلى شؤم يظلل هذه المدينة الناصرية مرّة، والمقاومة مرّة، والإسلاميّة مرات، مع التمادي الحريري في تهميشها إنمائياً وخدماتياً. وصار الفقر الجميل الذي كان يقبع في شوارع مدينة النخيل هذه بؤساً وجوعاً وبحثاً مستمراً عمّا يسد العوز المتفاقم يوماً بعد يوم. ومن هذا الواقع، أطلّ تجار طرابلسيون يعرضون على الناس شراء القدرة على تزعّمهم. كان السعر بداية وظيفة أو تعليماً جامعياً أو شقّة سكنية. ازداد البؤس، فصار السعر مئة دولار أو حتى صورة مع تاجر ينتمي بثيابه ومفرداته اللغويّة إلى عالم يشتهيه الطرابلسيون. ثمة في طرابلس أكثر من تاجر، يقول المتابعون.
وفي المقابل، يزداد بخل المعارضة. هنا سؤال عمّا قدمه حزب الله منذ نشأته للشمال (دون المقارنة مع ما قدمه للجنوب والبقاع). وهنا خبريّة عن قرار في الحزب بتعبيد بعض الطرق في عكار، تبين لاحقاً أنه ينحصر بالبلدتين الشيعيتين العكاريتين فقط. وهنا استفسار عن سبب عدم تقديم نواب تكتل التغيير والإصلاح جزءاً من مخصصاتهم (على الأقل الزفت) للبلدات التي اقترعت لزملائهم بكثافة (مع الأخذ بعين الاعتبار أن بعض مرشّحي التيار، وخصوصاً جوزف شهدا في عكار، يقومون بجهد فردي كبير لتأمين حاجات الأهالي).
ويُحكى في طرابلس، أن آل كرامي يدفعون دائماً من جيب الدولة لا من جيبهم. ويقال إن الرئيس كرامي لم يتأقلم (حتى بين عامي 2000 و 2005) على الحضور خارج السلطة. فقد كان له دائماً حلفاء في الحكم، يوفّرون له حاجات من يقصدون منزله بكثافة يومي الجمعة والسبت. وهو منذ استقالة وزراء حزب الله وحركة أمل يعاني، للمرة الأولى، الانقطاع الكامل عن السلطة. وبالتالي، فإنه ورغم تعزيز ميزانية المستشفى الإسلامي الخيري ومستوصفي التل والحارة البرانيّة ومؤسسة الأيتام وجامعة المنار، لا يستطيع إرضاء كل من يقصده. ويزيد من سلبية هذا الأمر، الشائعات الكثيرة (التي يسوقها محسوبون على تيار المستقبل) عن تلقّي كرامي مساعدات كبيرة من حزب الله وقطر والسعودية، لم ير منها الشماليون إلا القليل جداً.
وبرغم حاجات الناس الكثيرة، وتحوّل المئة دولار التي يقبضونها من هنا وهناك إلى وسيلة استمرار على قيد الحياة، تتعامل المعارضة الشماليّة مع هذا الأمر بفوقيّة نسبيّة، من منطلق أنها «صاحبة مشروع سياسي وقضية قومية، ولا تريد من يلتحق بها سعياً وراء مئة دولار». في وقت، يطرح فيه البعض أسئلة عن سبب عدم مبادرة المعارضة مجتمعة إلى افتتاح مكتب خدماتي في المنطقة، لا يشتري الناس بل يبقيهم على قيد الحياة. كما يستغرب البعض عدم تكريس المعارضة أحد الزعماء ممثلاً مفترضاً لأبناء الطائفة السنّية يؤلف فريق عمل خدماتي وسياسي جديد بدل الإصرار على محاولة «تعويم» أشخاص ثبت عدم أهليتهم للقيادة، وبعضهم لم يستطع رغم الدعم السوري اللامحدود، أن يتزعم ولو أهالي حيّ صغير.

توسيع المطبخ

بالنسبة إلى رواد مقاهي التل والمينا وأبي سمرا، الذين يقضون بين خمس وثماني ساعات يومياً بين قراءة الصحف وتحليل ما يردهم من معطيات، تمثّل المشكلتان السابقتان عنوانين مهمّين للصعوبات التي تعترض توسع المعارضة شمالاً. لكن الأهم والمقدمة لحل المعضلات التي تواجه معارضي الشمال تكمن في توسيع المطبخ الذي يعدّ للمعارضة خططها ويوحي لمسؤوليها بالبيانات ويحرّك بعض رموزها.
وبحسب هؤلاء، فإن تعويم المعارضة لوئام وهاب وتحويله من مجرد وزير سابق إلى ظاهرة يتناقل الناس أخبارها بشغف من جهة، وإبراز كمال الخير في منطقة المنية وتمكينه من تغيير موازين القوى في «قلعة المستقبل» من جهة أخرى، يشيران إلى قدرة المعارضة على خلق زعامات إن هي قررت، ويطرح بالتالي علامات استفهام كثيرة بشأن مخطط المعارضة ورؤية طبّاخها. فلا يمكن، فهم التهميش الإعلامي لمعظم الوجوه السنّية، وحصر الهواء بالمتخصصين في تمجيد حزب الله. وعن المطبخ، يتحدث البعض عن حاجة لمخططين يدرسون الأرض، يفهمون أكثر حاجات الناس ويتلمّسون هواجسهم ومخاوفهم، ثم يضعون تصوّراً لما يمكن فعله. هكذا لا يعود كرامي ويكن والقوى الإسلامية المعارضة يعملون في الحي نفسه وعلى المجموعة نفسها، ويتبنّى كل واحد من هؤلاء الثلاثة خطاباً خاصاً يستعطف مجموعة محددة. وفي اعتقاد بعض المتابعين أن الاجتماعات الأسبوعية التي تحصل هنا وهناك باسم معارضي الشمال، لا تقدم أو تؤخر شيئاً، وليس لها أي مردود شعبي أو انتخابي، وهي لقاءات نخبوية تضم رموزاً تزداد يوماً بعد يوم الهوّة بينهم وبين «المفاتيح الانتخابية».
ويعدد الناس أسماءً كثيرة لشخصيات سنّية معارضة تهمّش تحت عناوين مختلفة، منهم رؤساء بلديات سنّية كبيرة غامروا برفض مجاراة التيار، فلم تدعم المعارضة صمودهم، ومنهم شيوخ تحدّوا مرجعيتهم ولم توفر لهم المظلة، ومنهم نواب سابقون ومرشحون يصرّ البعض على استبعادهم خوفاً على مقعده المنتظر. ومن هذه النقطة، يدخل المتابعون في التفاصيل أكثر، فيتحدث البعض عن تمسك حزب الله بممثّله في الشمال رغم المآخذ الكثيرة على قدرته التنظيميّة، واتهام البعض له بالانحياز لطرف ضد آخر في المعارضة، وفي بعض الأحزاب أيضاً. ويستغرب البعض إصرار المعارضين على رفض لَعب لعبة الموالين في شقِّ العائلات والأحزاب، علماً بأن التربة في آل الجسر وعلوش وكبارة خصبة جداً، تماماً كما هي الحال في «المستقبل». ويسرّ البعض أنهم قصدوا مسؤولي حزب الله مراراً وفاتحوهم بالموضوع، وكان الرد دائماً «أعطونا رقم هاتفكم، سنتصل بكم قريباً»، وتمر الأيام ولا يتصل أحد بما يؤكد لهؤلاء أن الشمال خارج دائرة اهتمام المعارضة لأسباب كثيرة (بعضها يتحدث عن تقسيم)، و«أن السنّة المحسوبين على المعارضة ليسوا أكثر من عبء يحتضنه حزب الله لمعرفته أن لا قدرة لتيار المستقبل وحلفائه على استيعابه».
في انتظار توسيع المطبخ، وتنقية خطاب المعارضة، وتعزيز الخدمات، يتطلع البعض إلى وعي عند قادة المعارضة لدخول المنزل من بابه، كما يقول المثل. فالمستقبل عرف حجمه في المدينة وسارع إلى التحالف مع أهلها. بعضهم حالفه، وبعضهم فضّل الانكفاء. وهؤلاء المنكفئون، بحسب الناس أنفسهم، هم الوسيلة الوحيدة لتغيير موازين القوى.



حزب الله والسنّة

أصل مشكلة المعارضة في طرابلس، تكمن في الصراع السنّي ــــ الشيعي، والانطباع العام أن المعارضة شيعيّة الهوى، يقول مسؤول سنّي بارز في المعارضة، مشيراً إلى أن أحد مستشاريه سأله منذ بضعة أيام، بحضور عدد من مساعديه، عن موقفه في حال تصاعد الصراع السنّي ــــ الشيعي، قبل أن يؤكد له أهل فريقه الخاص أنهم سيكونون حتماً مع السنّة.
هذا الكلام في طرابلس، عاصمة اليسار العربي سابقاً، ومدينة الاحتفال لأسبوعين بانتصار المقاومة عام 2000. أما المشكلة، التي لم يتحرك أحد بجديّة لحلها، فدخلت عامها الخامس، يشرح أحد أبرز القوى السلفيّة البعيدة عن الصراع السياسي، موضحاً أن الحساسية السنّية تجاه حزب الله بدأت إثر الاحتلال الأميركي للعراق، ومهادنة الحزب الأميركيين إعلامياً وسياسياً وعسكرياً. ثم أتى اغتيال الحريري ليعزز شعور الاستضعاف السنّي، ويكرّس صورة الحزب كشريك للنظام السوري الذي يراه أبناء الطائفة السنّية عدواً شرساً قضى على زعمائهم وحكم مناطقهم بطريقة عسكريّة قاسية. و«الناس لا تنسى يوم أهان نصر الله تاريخ المسلمين (السنّة) بشكره «سوريا الأسد»، رابطاً مدينة الشام بنظام يراه المسلمون من أشدِّ الأنظمة عداءً للإسلام».
أضف إلى ذلك، عدم ترك الحزب خصم من خصوم السنّة إلا وتحالف معه، قبل أن ينسحب من الحكومة على أساس مذهبي، معززاً الانقسام بتكرار الكلام عن أن «الشيعة غير ممثَّلين»، مكرّساً بذلك أن المسلمين أمتين، وهذه، بحسب المرجع السلفي، خطيئة سيدفع الحزب ثمنها باهظاً.