راجانا حميّة
بدأ القاصّ عبد الرحيم العوجي مسيرته مع الحكايات علناً، بعدما كانت حلماً لا يجرؤ عليه، فانطلق في أولى وُرشه «...وثمّ سرق أنانسي الحكايات وأعطاها للبشر»، لجسّ النبض والبحث عن حكواتيٍّ ضائع قد يعيد الحكايات إلى مكانها

...ثمّ عاد «أنانسي» إلى حكاياته، يفتّش عن المدرسة التي تضعه وجهاً لوجه أمام حلمه، عاد إلى الحكايات، وعاد معه الحكواتي عبد الرحيم العوجي أو «أنانسي» الآخر، الذي لمّا يسأم بعد من ذاك الحلم، وإن كان يجده في غالبيّة الأحيان بعيداً جدّاً، لكنّه يعوّل على «البعض» الذي يشبهه في حبّه لهذه الشخصيّة وعلى الناس المفطورين على الحكايات.حلم العوجي دفعه إلى البحث عن مدرسة الحكواتيين وحيداً بعدما فشلت المحاولة الأولى في تأسيسها مع أستاذه اللبناني الفرنسي جهاد درويش الذي اكتشف بعد ورش عمل عدّة عقم حلمه وصعوبة تحقيقه وسط صخب التقنيات البصريّة، فعاد إلى باريس تاركاً الهاجس وراءه.
حاول العوجي مراراً الاكتفاء برواية الحكايات لنفسه ليشبع حبّه للمهنة، إلّا أنّه بعد وقت وجد أنّه ميّال إلى المغامرة في نقل التجربة إلى غيره، رغم ندرة الإمكانات المادّية والنفسيّة وقلّة اهتمام الناس تالياً بهذا الفن.
خاطر، أمس، بعد التردّد، فدعا إلى نشاطه، إضافة إلى نفسه، «من يحلو له الحضور»، على أن لا يتجاوز الحضور 15 شخصاً. السابعة إلّا خمس دقائق، في «البيت العلماني» ـ الحمرا، وصل ثلاثة فقط، مُدرّسة وطالبان جامعيان، والباقون ينتظرهم العوجي عند باب «البيت»، بابتسامته التي حاول جاهداً إبقاءها رغم خوفه من الضياع مرّة جديدة، لكن لا بأس أربعة آخرون حضروا، استراح العوجي لحلمه الذي لا يزال موضع اهتمام القليلين، وبدأ نشاطه «...ثمّ سرق أنانسي الحكايات وأعطاها للبشر»، وإن كان يريده مغايراً لأنانسي الأفريقي، الذي يقرأ فقط ما بين يديه، فيحاول العوجي هنا أن ينقل خبرته عن الحكواتي «المودرن» إلى الطلّاب والمدرّسين لينقلوها بدورهم إلى تلامذتهم أو أيّ أحد آخر يحبّ الحكايات. تنوّعت نشاطات اليوم الأوّل من الورشة التي تستمر إلى غد الخميس وركّز فيها على رواية القصّة وتركها ما قبل النهاية ليكمل تلامذته ما بدأه هو، على أنّ الفكرة الأساسيّة من ورائها تشجيع موهبة التأليف، إضافة إلى أسلوب رواية الحكايات وشخصيّة الحكواتي «الذي عليه الاقتناع بقصّته كي يستطيع إقناع الآخرين بها». أمّا لماذا اختار العوجي «أنانسي» وهو يطمح إلى نقل أسلوب مغاير عنه؟ وما هي صورة الحكواتي «المودرن» الذي لا يشبه لا أنانسي ولا «أبو عادل» في مسلسل «باب الحارة»؟.
يرسم العوجي الذي يغالي في خوفه وطموحه وعشقه للشخصيّة التي اكتشفها في نفسه أخيراً، صورة جميلة لحكواتي يلائم العصر ويحافظ تالياً على التراث الشفوي اللبناني، انطلق فيها من أنانسي، وهو، «وفقاً للأساطير الأفريقية، كان مخلوقاً محبّاً للبشر، نصفه رجل والنصف الآخر عنكبوت بثماني أرجل، عاش بين الناس، فعلم مدى عذابهم وهمّهم من دون وجود أي شيء يروّح عنهم ويسليهم ويساعدهم على تخطّي صعابهم، ولأنّه في تلك الحقبة من الزمن، كانت الآلهة وحدها يحقّ لها امتلاك القصص وسماعها، صنع أنانسي شبكته وصعد بها إلى السماء وسرق القصص بعد السجن والخضوع لثلاث تجارب نال بعدها لقب إله الحكايات، وبدأ بروايتها».
لكن أنانسي العوجي لا يشبه الأوّل، ذلك أنّ الجديد ميزته أنّه يروي حكايته في أيّ زاوية أو أيّ مكان، وليس بالضرورة أن يكون في المقهى، وليس بالضرورة أيضاً أن تحمل «أخلاقيات ودروساً كما أبو زيد الهلالي، فقد تكون للتسلية فقط»، وبعيدة أيضاً عن الكلمات التي اعتادها الحكواتي التقليدي مثل «يا سادة يا كرام»، والتركيز أكثر على التفاعل مع المستمعين، كأن يسألهم عمّا سيفعله الشخص كذا في المكان كذا، ويترك لهم نهاية القصّة ليكتبوها هم في غالبيّة الأحيان. يعرف العوجي في طموحه هذا، بأنّ قصّة الحكواتي«ماتت»... و«زيادة» بعدما تركها جهاد، إلّا أنّه يؤمن بأنّ المحاولة أفضل من ترك الحلم، ولو كان بعيداً بعيداً جدّاً.