strong>أحمد محسن
•الأهالي عادوا إلى الخيَم ولا يأملون خيراً من التعويضات

قبل الحرب كانت صريفا مجرد قرية هادئة شمال صور. في لهيب تموز، حلّت الكارثة، واتشحت القرية آنذاك بالسّواد الإلزامي. بعد عام ونصف عام ضربت الهزّات المزيد من البيوت المتبقية مجددة الألم ومضاعفة صعوبة الحياة اليومية للمواطنين

لا يزال الناس في صريفا حتى اليوم يروون قصصاً كثيرة عن المجزرة التي وقعت في قريتهم. لم يستطع أيّ منهم أن ينسى ذلك اليوم المظلم. «حي البركة» و«حي الجامع» دُمّرا بالكامل. أحياء أخرى كالحسينية والمرج والساحة نالت نصيبها بدورها. لفّ الحزن لفيفه على التنّوع الحزبي في صريفا، وعلى الأحياء التي اشتُقت أسماؤها من الماضي والحاضر، كحيّ «موسكو» الذي يتّسم بغالبية شيوعية، وجبل إسماعيل أو «طهران» كما يُعرف، واسمه يدل على هوية غالبية سكانه الحزبية.

زيادة الطين بلّة

لم يمرّ عام ونصف على انتهاء الحرب، حتى أطلّ فجر الثلاثاء 12 شباط 2008 حاملاً معه المزيد من المآسي. ضربت هزة أرضية قوية الجنوب اللبناني وصولاً إلى شمال فلسطين المحتلة. صريفا التي اعتادت على الموت، خافت من باطن أرضها، ولجأ أهلها إلى العراء. بلغ الذّعر مراحل متقدمة في الأيام التالية، وخصوصاً الجمعة 14 شباط، حيث انطلقت الهزة من قلب صريفا هذه المرة، بقوة خمس درجات.
في السهول المحيطة، سيطر الهلع على عيون المواطنين. يحيى دكروب (50 عاماً) أمضى أياماً مع عائلته في خيمةٍ صغيرة، تحت رحمة العواصف ووابل المطر. محمود زعرور (60 عاماً) الذي عايش حرب تموز أيضاً، وهو أب لشهيدين (أولّهما سقط في مواجهات في وادي الحجير قبيل التحرير، وثانيهما في قوى الأمن الداخلي استشهد في المجزرة) لم يجد مفرّاً من جنون الأرضِ إلا خيمة بقيت من الحرب الأخيرة. لافتاً النظر إلى أن الناس ليسوا مجهزين لحالة كهذه على الإطلاق، فحتى الخيم لم تكف السكان لتحميهم من عواصف الشتاء القوية.
زادت الهزّات الطين بلّة. كبر حجم الأضرار في المنازل. انهار عدد لا بأس به من الجدران، وتصّدع وتفسّخ كثير من البيوت التي نجت من صواريخ العدو. كلّفت البلدية لجنة هندسية إعداد جداول تتضمن أسماء المتضررين، لرفعها إلى «الهيئة العليا للإغاثة» ثم إلى «شركة خطيب وعلمي»، التي ستدقق بالجداول وتقوم بالكشف الميداني للتأكد من صحتها، «على أمل أن لا تصبح تعويضات الهزّة مثل تعويضات الحرب، مجرد أموال مسجونة بسبب النزاعات السياسية».

التعويضات المجمّدة

لم تكن صريفا، كغيرها من البلدات اللبنانية الكثيرة، تنتظر الحرب لتشكو الحرمان. في المبدأ هي محرومة من مخصصاتها البلدية التي لم تُصرف منذ انتخاب مجلسها البلدي كما يؤكد رئيس بلدية صريفا علي عيد «ما زالت الأموال داخل صندوق البلديات التابع لوزارة الداخلية، أما المشاريع الإنمائية في القرية فاعتمدت على الهبات والمساعداتجاءت الحرب الإسرائيلية الأخيرة لتضاعف المشكلة، خصوصاً مع الطريقة التي اعتمدت لدفع التعويضات. يشرح عيد: «اعتبرت الممتلكات الخاصة باستثناء الوحدات السكنية، خارج إطار التعويضات، كالمحال التجارية والأشجار المثمرة وحقول التبغ، التي يعتمد عليها كثر هناك». المطالبة كانت عبر حملةٍ عامة قامت بها نقابة مزارعي التبغ في الجنوب لم تثمر شيئاً. «حتى تاريخ اليوم، لا قرار بالتعويض إلا على المنازل».
في صريفا، تكفّلت المملكة العربية السعودية إعادة إعمار كلّ المنازل المدّمرة والمتصدّعة عبر «آلية معقدة». فقد شكل مجلس الجنوب وسيطاً بين المتضررين والمملكة، وكلفت الدولة اللبنانية شركة خطيب وعلمي تقدير حالة البيوت، وتحديد حالتها (إن كانت سترمم أو ستخضع للبناء من جديد). وفي هذا الإطار يشكو أهل القرية من الظلم الذي تعرضوا له في حالات التخمين، حيت تتعدد الحالات.
إلى ذلك، يسخر الأهالي من قيمة المبلغ الذي رصدته الدولة لإعادة إعمار الوحدات السكنية المتضررة بالكامل (60 مليون ليرة لبنانية). ذلك أن أسعار مواد البناء ارتفعت بشكلٍ جنوني بعد الحرب، والمبلغ ليس كافياً أبداً، وخصوصاً أن الدفعة الأولى من المبالغ مُنحت للناس، لكنها لم تكف إلا لتشيّد الهياكل! أما الدفعة الثانية فهي لا تزال عالقة منذ انتهاء الحرب في صناديق الهيئة العليا... لولا حصول الهزّة الأرضية، التي «أنتجت» إعلاناً صدر عن مجلس الجنوب في 20 شباط 2008 يبشّر بعودة عمليات المسح ومنح الدفعة الثانية من التعويضات!

مساعدات أجنبية

إعادة الإعمار ليست إلا واحداً من الهموم الحياتية للأهالي هناك. «الكهرباء في الضيعة كما في كل الجنوب، انقطاعها أكثر من حضورها»، على حد قول حسن رمضان (50 عاماً). المياه مؤمنة عبر بئر ارتوازية حفرت بجهودٍ شخصية من أهل القرية، وتحتاج إلى أنابيب نقل المياه، وإلى عملية صيانة بسيطة بعدما فتكت بها الهزة الأخيرة التي خلّفت آثارها على كل شيء كالحرب تماماً. ولا يفوت الأهالي التذكير بالدور الذي قامت به قوات «اليونيفيل» في المساعدة عبر تقديمها بعض الخيم للنازحين في العراء، في ظل غياب الدولة بشكلٍ تام.
هذا ما يدفع البلدية إلى الاعتماد على المساعدات الأجنبية، وخصوصاً أن صريفا نالت حصةً كبيرةً من التعاطف العالمي بعد الحرب، تمثّل ببعض المساعدات التي قدّمت على أكثر من صعيد. فوفقاً لجداول المساعدات في البلدية، قدّمت البعثة الإيطالية في الأمم المتحدة مكتبةً عامةً أقيمت في آخر القرية باتجاه بلدة قلاويه، وجهّزت ملعباً لكرة القدم إضافة إلى مركز الكومبيوتر والإنترنت. ساعد الإيطاليون في مجالات أخرى، كجرف منشآت متعلقة بالبنى التحتية والصرف الصحي وتسهيلها. الهيئة الإيرانية بدورها أسهمت في تزفيت بعض الطرقات، ووعدت بإكمال مهمتها في الربيع الآتي عندما يتحسّن الطقسالحكومة التركية هي الأخرى قدّمت مدرسة من الأبنية الجاهزة، تساعد الأطفال في متابعة تحصيلهم الدراسي، إلى جانب المدرستين المرممتين بعد العدوان الأخير. ويُحكى عن مشروعٍ يقضي بتحويل هذه المدرسة إلى مهنية رسمية، يعدّه أهل القرية إنجازاً لعدم وجود أي مدرسة رسمية في المنطقة، ما يسهم في انخفاض التكاليف، من حيث المسافة وأجور النقل، ومن حيث رسوم التسجيل الباهظة الثمن في المهنيات الخاصة، بالنسبة لأهل القرى، حيث الأوضاع المعيشية صعبة.
شاركت أكثر من دولة في مساعدة صريفا. ومن المشاريع المميزة حديقةً عامةً للأطفال، في مواجهة مبنى البلدية «وهي تحظى باهتمامٍ كبيرٍ من البلدية» كما يشرح رئيسها.

علاقة طيبة باليونيفيل

الناس على علاقة طيبة بالقوات العاملة في الأمم المتحدة. حسن (18 عاماً) يقول إنهم طيبون وليسوا أعداء كما «إسرائيل»، إضافةً إلى ما يقدمونه من عونٍ للضيعة، لكنه «يحذّرهم» مبتسماً من تغيير سياستهم. إبراهيم (21 عاماً) يعتبر وجودهم غير ضروري «نحن قادرون على أن ندافع عن أنفسنا»، لكنه في الوقت نفسه لا يمانع بأن يتعاطى معهم بإيجابية وبكلّ محبة، ما داموا يتصرفون بود.
الناس متعلّقون بقريتهم، وهذا يشمل المغتربين. فالقرية تشهد حركةً كثيفةً في الصيف، رغم كل الأحداث التي تجري، والإهمال الذي يلاحق القرية. المنازل الصغيرة تستوعب الجميع، والطرقات المحاطة بأشجار الكينا كذلك. سامي سويدان (54 عاماً) المغترب في ألمانيا، يأتي إلى صريفا كلّما سنحت له الفرصة بذلك، وقد فعلها بعد أيام قليلة على انتهاء عدوان تموز وإعلان وقف الأعمال الحربية، فكان من أوائل الواصلين إلى القرية، مع مجموعات النازحين، أثناء عودتهم من نزوحهم القسري.
فور عودة كثر من هؤلاء، حاولوا متابعة حياتهم كالمعتاد، فضمّدوا الجراح القديمة، واستقوا الأمل من السماء. أحمد رمضان (23 عاماً) من ضحايا العدوان اذ خسر رجله، لكن البعثة السويسرية ساعدته في الحصول على العلاج، بحيث زُرع عضو اصطناعي بديل له. هو على وشك الزواج، يتألم من ذكريات الحرب، ولكنه ينظر إلى المستقبل بلهفة شديدة.



محطات مقاومة

تملك القرية تاريخاً حافلاً في مقارعة العدو. يتداول أهلها وأهل القرى المحيطة حادثة شهيرة حصلت عام 1986، حيث عجزت قوات الاحتلال وقتها عن تخطي أسوار صريفا، فوقفوا عند عين الضيعة، إلى جانب ما كان يعرف وقتها بالمغراقة (لكثرة المياه والينابيع فيها)، حيث تضافرت كلّ الأحزاب التي تقاوم إسرائيل آنذاك، وتكاتفت جميعاً لمنع جيش العدو من التقدّم.
ويُحكى أن الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصر الله كان ضمن مجموعة المقاومين التي أوقفت الإسرائيليين فترة طويلة، تجاوزت الأسبوعين وقتها، فلم تستطع جحافل الجيش الإسرائيلي ومدرّعاته العبور لشدة ما استبسل مقاتلو المقاومة كما يروي أهل القرية. السيّد نفسه أكّد هذا الأمر في إحدى المقابلات التلفزيونية، وأشار إلى أنه كان بجانب الأمين العام الراحل، السيد عباس الموسوي، في تلك الموقعة.
انتقم الإسرائيليون في تموز 2006. خمسة وثلاثون شهيداً مدنياً سقطوا على دفعتين، في مجزرتين منفصلتين، أولاهما وأكبرهما في ليل السابع عشر من تموز. عائلات بكاملها تعرّضت للإبادة، وبقيت الجثث تحت الأنقاض حتى آخر أيام الحرب.
تغير شكل القرية بعد التخريب الهائل الذي حلّ بها، وعلى مداخلها الرئيسة ازدادت صور الشهداء. الطريق إليها يتخللها الموت الكثير، لكن أحياءها التي فقدت سبعين في المئة من بيوتها لم تتغير على الإطلاق. النهر في آخر القرية بقي يهدر بأسماء الشهداء. الأطفال أنفسهم بقوا يمتشقون خيوط الشمس، وتطغى السمرة على سحناتهم رغم البرد القارس.