strong>خلدون الشريف*
•نقاش هادئ في أسباب وتاريخيّة تراجع وتقدّم القوى وأهدافها
أثار ما كتبه الزميل غسان سعود في العدد 460 من «الأخبار» عن أوضاع المعارضة في الشمال حالة من النقاش، كتب فيها خلدون الشريف رداً انطلق من قراءة الخلفيّات التي أدّت إلى ما نراه حالياً، ليشدّد في ردّه على الفارق ما بين المبدئيّة السياسيّة والحسابات الانتخابيّة أو الحالات الشعبويّة

لا يستقيم حديث عن موالاة ومعارضة ضمن ديموقراطية شديدة الخصوصية تستمد دستوريتها، ولربما حيويتها الوحيدة الممكنة، من تركيب ائتلافات، غالباً ما تحظى برعاية خارجية، بين ما يسمى مكونات المجتمع اللبناني، وهو التعبير «البلاغي» الذي يستبطن شرط التحالف بين الطوائف الكبرى لتكوين السلطة وتقاسمها.
في الحراك الداخلي الأول بعد اتفاق الطائف، وفي ظل إدارة سورية مطلقة القبضة والاستنسابات، انتفى الحديث عن معارضة وموالاة، وإنما هي سلطة يقبض عليها نافذون ومحظوظون قريبون من دمشق، ويقبع في الخارج، أي خارج السلطة، من هم أقل حظاً وبالتحديد أقل قابلية للدخول في تركيبة المنافع المتبادلة بين طبقة سياسية لبنانية مغرقة في الفساد وطبقة سياسية سورية رعت هذا الفساد وأدارته، ورأت فيه وسيلة مثالية للإثراء بلا شبهات في «الحديقة الخلفية»، حيث بوسع التعقيدات الكامنة أن تغفر الكثير من الأخطاء والخطايا شرط عدم تعريض المصالح الاستراتيجية المفترضة للغرق في مستنقع المال والشهوات.
في هذا المناخ، وبالتوازي مع تطبيقات انتقائية لبنود اتفاق الطائف، أرسى السوريون على مدى 15 سنة مشهداً سياسياً تميز بحضور بارز للطائفة الشيعية في التركيبة اللبنانية، وبتحجيم بارز أيضاً للمسيحيين في ما يتصل بمؤسساتهم وأحزابهم التقليدية، وبإطلاق مناخات اقتصادية واجتماعية شكلت البيئة المثالية لصعود الحريرية كنهج ومن ثم كتيار، وأخيراً كاختزال نوعي، مثير للجدل، للسُنّة في أول حراك لها بعد المرحلة الناصرية، وبعد الإقامة الطويلة للثورة الفلسطينية في لبنان.
لاحقاً، مع الخروج السوري، ومع تصاعد الدخول الدولي إلى الساحة المحلية، انقلب أصحاب السلطة في زمن «الوصاية» على «الوصاية» في طريقهم لإنتاج سلطة بديلة تعتاش على عداء غير مسبوق لدمشق، مع مفارقة القفز فوق التجربة «المشتركة» في المعاصي اللبنانية، والذهاب إلى الترويج لخلاف شبه أيديولوجي مع النظام السوري، ولا جدال في أن انخراط الحريرية، بما تمثله من سنية لبنانية جامحة، في مشروع السلطة الجديدة شكل التربة الخصبة لنمو حالة سياسية لها شعبيتها، والأهم بُعدها الإقليمي والدولي.
بالمقابل، فإن حزب الله الذي اتخذ خياره عام 2000 في الانخراط في اللعبة الداخلية عبر الانتخابات النيابية ومن بعدها البلدية، ما لبث أن تورط تدريجاً في النزاع الحاصل، مدافعاً بدايةً عن سوريا من غير الاعتراض على خروج قواتها، ومحاولاً عام 2005 التعامل مع الواقع عبر حلف انتخابي مع «المستقبل» ولاحقاً عبر ائتلاف حكومي، ما يعني بشكل من الأشكال التسويق لتسوية بين السنة والشيعة قوامها المصالح المشتركة إن لم يكن بالإمكان تحقيق التنازلات المتبادلة... مع ضرورة الإشارة إلى أن هذه التسوية جديرة بوضع ملف العلاقات مع دمشق في مكان آمن، ومؤقت.
في سياق هذه التبدلات المتسارعة، استمرت بعض القوى السياسية في مواقعها، قابضة على مجموعة ثوابت هي أقرب إلى المبادئ، بغض النظر عن التغيرات في مزاج الشارع، أو عن الاصطفافات الحادة، أو حتى عن المصلحة المباشرة سواء كانت انتخابية أو توسيع شعبية، وليس غريباً هنا أن تكون طرابلس، المدينة السنية بامتياز، حاضنة ومنطلقاً لمثل هذا النهج الذي يرى مساوئ دمشق «اللبنانية» ويعترض عليها، ولكنه يرى أيضاً الموقع الذي تمثله دمشق في الصراع العربي الإسرائيلي، والأهم أنه يرى وبوضوح نوعية الروابط الحتمية التي تجمع بين لبنان وسوريا. هذا النهج، استطراداً، ومن عمق جذوره السنية، يرى في المقاومة، رغم شيعيتها، إنجازاً لبنانياً وعربياً نوعياً بكل المقاييس. وكما صفق للمقاومة مع المصفقين عندما حررت الأرض عام 2000، وقف إلى جانبها عندما استهدفها قرار مجلس الأمن الدولي 1559، ورأى أنه «القرار الفتنة»، ولاحقاً كان من الطبيعي أن ينصرها في وجه العدوان الذي شنته إسرائيل عام 2006، ومن ثم أن ينتصر معها.
ليس السؤال الجوهري عن مدى تشيّع السني الذي يناصر المقاومة، بل السؤال الجوهري هو عن مقدرة هذا البعد السني للمقاومة عن دفع الشبهة المذهبية عنها، وخصوصاً أن هذه المقاومة تحديداً لها مع محيطها السني اللبناني والفلسطيني والسوري، روابط وثيقة تكاد تشكل المعيار السياسي الذي يضعها في إطارها القومي العريض، رغم كل الثقل الشيعي الإيراني في دعم وتمويل هذه المقاومة. وتالياً، ليس السؤال الجوهري عما يمكن أن يكسبه المعارض السني في طرابلس أو سواها لقاء خياراته في أن يكون ضمن معارضة لها سمة شيعية، وإلى حد ما مسيحية، في مواجهة موالاة لها حكماً سمة سنية.
السؤال الأهم هنا هو عن المكاسب المتحققة في المشهد الوطني والقومي العام، وخصوصاً أن العرقنة التي تتوعدنا بها القوى الدولية، تتخذ، وعلى نحو خطير، شكل الفتنة السنية الشيعية. وفق هذه الشروط الصعبة للعبة السياسية اللبنانية، لا يمكن النظر إلى «المعارضة» بوصفها حركة تقليدية هدفها الاستيلاء على السلطة، وبالتالي النظر إلى أقطابها وتياراتها كأنهم يعملون لتكوين شعبية انتخابية «تُصرف» في المحاسبة اللاحقة بين القوى السياسية، سواء عبر الانتخابات أو عبر المحاصصات التي تليها.
ليست مهمة المعارضة السنية في طرابلس تحديداً أن تجابه المال بالمال، والخدمات بالخدمات، والمنافع بالمنافع في سياق تنافسي مع تيار المستقبل الذي يتفوق بإمكاناته المالية والإعلامية على الجميع، سواء كانوا موالين أو معارضين، مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن تجميع المناصرين عبر الرواتب والأعطيات الصغيرة في مجتمع فقراء لا يعني بأي شكل تكوين «رأي عام» واع وحر ومتصالح مع مبادئه ومصالحه. وليس حديث بعض النخب في طرابلس، عن بطلان «موضة المبادئ» سوى أحد أنواع التبرير البسيكولوجي الذي تبتكره الجماعة، للدفاع عن انزلاقاتها وهشاشاتها وإلقاء التبعة على «البديل» الذي، برأيها، لم يستطع خلق حالة مضادة قوامها للأسف المال والتعامل مع البشر كفقراء.
ولا تنتظر المعارضة السنية في طرابلس أو سواها، لاحقاً، مكافأة تُمنح لها من شركائها الشيعة والمسيحيين، لأن المكافأة الحقيقية هي الثبات في الموقع المتجذر الذي يعبّر بعمق عن وجدان الناس وإن لم يعبّر، بكل مرارة وأسف، عن وصول درجة الاحتياج لديهم إلى 100 دولار في الشهر تقيهم شر الجوع، إلا أن مجرد التعبير عن وجدان الناس هو سعي متواصل للدفاع عن مصالحها في الحياة الكريمة، التي هي حقها الطبيعي، لا منّة ولا جميلاً من أحد.
كما لا تنتظر المعارضة السنية في طرابلس أو سواها، مكافأة تُمنح لها من الخارج، سواء من سوريا أو إيران، لأن المكافأة الحقيقية هي في الانتصار لموقع السنّة، سنّة لبنان، في الصراع الطويل والعظيم مع عدو الأمة.

*عضو اللقاء الوطني اللبناني




strong>قد تنفع الذكرى

في عام 1983، وبعيد توقيع اتفاق 17 أيار تداعى محبّو الشهيد رشيد كرامي لزيارته، وإبلاغه بأن بعض نخب المدينة ترى في هذا الاتفاق خشبة خلاص للبنان، فانتفض الرجل وقال: لو بقيت وحيداً سأعتلي المنابر في ساحات المدينة لرفض هذا الاتفاق وإسقاطه. وحينها كانت بعض النخب تراهن على هذا الاتفاق، إلا أنه سقط برغم كل شيء، واليوم تعود القرارات الدولية لتعيد صياغة مضمون اتفاق 17 أيار بلبوس مختلفة، ومعها يراهن بعض النخب أيضاً على انتصار هذه الوجهة، ولكن الحكم سيكون للتاريخ أيضاً، كما حصل مع اتفاق السلام اللبناني الإسرائيلي.