جان عزيز
قبل 16 عاماً ونيّف، كان وفد نيابي أوروبي مجتمعاً إلى زعيم مسيحي، يبحث معه في جوانب القضية اللبنانية المعقّدة. بعد بعض المجاملة، استهلّ كبير الضيوف الحوار بطلب قراءة مفصّلة لحقيقة الوضع المسيحي في لبنان، بتحدياته ومخاطره، وما يمكن تقديمه له. ابتسم الزعيم المسيحي، وتناول من على مكتبه صحيفة محلية، ليقرأ فيها خبراً حُشر في زاوية نائية. مفاد الأسطر القليلة أن مقيماً أجنبياً في السعودية، أُدين بحكمَي الجَلْد والسجن، لأنه زيّن في منزله شجرة لعيد الميلاد. لم تكن الشجرة ــــ الرمز خارج المنزل، ولا ظاهرة للعيان عبر إحدى نوافذه، لكن وهج زينتها المضيئة كان يصل إلى الخارج وميضاً متقطّعاً في الليل، بما يشي بوجودها.
أنهى الزعيم قراءة الخبر، وعلّق بعبارة واحدة: هذه هي قضيتنا في لبنان، ألّا نجد أنفسنا يوماً في وضع كهذا.
استذكار الحادثة، سببه خبر آخر نقلته قبل أيام صحيفة «لوموند» الفرنسية، عن مجلة «سعودي غازيت» الناطقة بالإنكليزية، ومضمونه أن «لجنة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في مدينة مكة، أو ما يُعرف بجهاز المطاوعة، أوقف 57 شابّاً بتهمة ارتداء «اللباس غير المحتشم وبثّ موسيقى صادحة والرقص»، في المجمعات التجارية، بغية لفت انتباه الفتيات.
أحد الخبراء المراقبين لم تفته المفارقة بين أن يكون «حبّ الحياة» شعاراً للتحرّر في بيروت، وتهمة كافية للسجن في الرياض، علماً بأن المرجعية السياسية للاثنين واحدة. لكن، بعيداً عن مجرد «التكتكة» على السلطة هنا، أو الغمز من طرف أكثر الأنظمة المعاصرة حديدية هناك، يظل الداعي إلى إيراد الحادثتين، إلقاء ضوء آخر على حقيقة الأزمة اللبنانية، أبعد من انسداداتها الآنيّة.
فعلى مدى أربعة قرون من التشكّل التاريخي والتدريجي للكيان اللبناني، ظل الوجدان المسيحي في هذا الإطار الدولتي، يهجس بقضية وجوده الديني. مضى وقت طويل قبل أن يكتشف هؤلاء أن المسألة أبعد من اضطهاد طائفة، وحتى أعمق من اختصار الوطن الجديد للمسألة الشرقية التاريخية، بعد تحوّلها مسألة أقليات، كما رآها شارل مالك، في مواجهة السلطة المركزية السنّية.
لقد كان على منطقتنا أن تنتظر العولمة الفكرية والسياسية والاقتصادية، لتدرك أن أزمتها أولاً، هي أزمة مفهوم «الآخر» فيها. وهي منبثقة من عطب بنيوي في «تكوين العقل» فيها (Epistémé)، لا في مجرّد أزمة الإسلام حتى مع الديموقراطية.
ووسط مزيج الخوف والبلبلة الفكرية عند «ضحايا» تلك القضية، هرب العقل الأقلّوي، وخصوصاً المسيحي منه، نحو الأطر الاندماجية الواسعة. القوميات، على اختلاف نطاقها، اللبناني والسوري والعربي، كانت محاولات معروفة. وحتى الأمميات لاحقاً، من دون جدوى.
مطلع التسعينات، لاحت فرصة لتصحيح القراءة. فمع انهيار نظام القطبين وسقوط الإمبراطوريات الماركسية من موسكو إلى بلغراد، وبزوغ ظاهرة هويات الجماعات، بدا العالم أكثر استعداداً لمقاربة على هذا الأساس، تعيد تقديم أزمة الشرق الأوسط في قالب إنساني تفاعلي معاً، بعيداً عن الحدّين المتناقضين: اليوتوبيا التي تلغي الفرد، أو الدوغماتية التي تقوقعه.
لكن لعنة لبنان أنه فيما كان تقرير برنامج الأمم المتحدة للتنمية يعلن سقوط عصر الدول ــــ الأمم، وبزوغ عصر الجماعات، وفيما كان «صدام» هانتنغتون يتحوّل نجماً عالمياً، كان لبنان يسقط تحت قبضة النظام السوري. فبين عنجر والبوريفاج، صار التفكير في كل ما سبق ترفاً غير متاح.
لكن فرصة أخرى لاحت في ربيع 2005. مع جلاء الجزمة الثقيلة، انفتح أفق أوسع. غير أنه لم يلبث أن أُقفل، حين اكتشف اللبنانيون أنهم خرجوا من سبات الوصاية، ليجدوا العالم من حولهم وقد تحوّل من مفاهيم «الجيو ــــ بوليتيك» التي ظلمتهم طويلاً، إلى مفهوم «الإيكو ــــ بوليتيك»، كما سمّاه فؤاد بطرس يوماً، أو سياسة الاقتصاد والنقد والدولار، أو البترو ــــ دولار تحديداً، وخصوصاً مع بترول مثلّث الأرقام الدولارية.
هكذا، ومرة جديدة، يبدو لبنان ــــ الرسالة في «الحرية والتعددية»، كما حدّد صاحب تلك المقولة، عابراً على قارعة الحدث الدولي. ومع ذلك لم ينضب قاموس الصراع السياسي الآني في بيروت، بين مطلب «سيادة» يرفعه «محبّو الحياة» السعودية، ومطلب «توازن» يشهره مناوئوهم، علماً بأن التدقيق في احتمالات نهاية الصراع الحالي، يشير إلى خطر واضح على الشعارين، مهماً كانت نتيجة المأزق الراهن.
منتصف الثمانينات اتّهم مفكّر مسيحي «حراس القضية» بأنهم تدرّعوا بالمقاومة ليضربوا ثورتهم. ثم أفاقوا على «الثورة» ليقضوا على الأولى، فانتهوا إلى إسقاط الاثنين معاً.
بين «السيادة» و«التوازن» في زمن «الإيكو ـــــ بوليتيك» المقنّع بحب الحياة، هل تتكرّر التجربة؟