strong> ديما شريف
•ملاعب كرة القدم فوق منازل المدنييّن والشاطئ محرَّم على الجميع
لا يمكن القول إن مخيم نهر البارد لم يعد يشبه نفسه، فهو لا يشبه شيئاً. بيوت شبه واقفة يحيط بها الركام، تشكل ما كان يُعرف بالمخيم القديم. أما في المخيم الجديد فتتخيل المساحات الواسعة التي دكّت أرضها وكأنها مشاريع لملاعب كرة قدم قيد الإنشاء
بعض بيوت مخيم نهر البارد لم يمسّها شيء من الخارج، ولكن داخلها محروق، ومخرب عن سابق إصرار وتصميم.
وقبل أن تدخل إلى المخيم، وبمجرد المرور على الطريق الدولية، يمكنك ملاحظة الدمار الكثيف والتلال الجديدة المستحدثة فيه. لن يتأثر كثيراً من يدخل المخيم للمرة الأولى، ولكن التأثر لساكنيه أو زواره الدائمين. فمن تعوّد زحمة المخيم وناسه وطرقاته وزواريبه المليئة بالحياة فسيصاب بصدمة كبرى: اختفت المباني والمحال والأطفال الذين كانوا يلوّنون الطرق، ليحلّ الرمادي في المخيم بأسره.
فبمجرد النزول إلى مدخل المخيم الجديد، تُفجع بمدى حجم الشارع الذي زاد عرضه بنسبة كبيرة، فقد زالت مبانٍ عدة من الوجود، وسوّت الآليات الأرض مكانها، فيما بعض الأبنية الأخرى لا تزال ركاماً وتنتظر من يلحقها بأخواتها. والمزيد من التوغل يوصل إلى شوارع ضاقت بركام المنازل شبه المتهدمة. بعض المباني لم يسقط إلا آخراً بفعل العواصف الرعدية نتيجة اهتزاز أساساتها أثناء القصف، فيما بعض الأبنية ما يزال صامداً. تنتشر بقع زرقاء كثيرة على بعض الجدران المتهالكة، وجوانب المنازل والمحال والمباني كلها في المخيم الجديد، بعدما طلى الجيش العبارات النابية والشتائم.
تتجول في الداخل فيروعك منظر الركام، ويدهشك إصرار على الحياة لا ترى مثله في أي مكان آخر، فتطالعك امرأة مسنّة تجلس على شرفة ما تبقى من منزلها، وعائلة عادت إلى بيت تسند أحد جدرانه بدعائم خشبية كي لا ينهار عليها، وتفضّله على السكن في مدرسة في مخيم البداوي، أو في بيت جاهز للأونروا لا تتعدى مساحته مساحة غرفة متوسطة الحجم.
إذا توجهت جنوباً نحو النهر تجد جسراً خشبياً جديداً وُضع على بُعد أمتار من مكان الجسر القديم الذي جرفته المياه بعد أول عاصفة. على ضفة النهر الشمالية وسط ركام الحجر، خزان مياه كبير وضعته الأونروا، تضخ إليه المياه عبر أنابيب على جانب الجسر الخشبي، من الصهريج الذي لا يستطيع العبور من الضفة الجنوبية، لأن الجسر الوحيد الذي لا يزال قائماً يستعمله الجيش كمعبر إلى داخل المخيم القديم. وقدمت هيئة الإغاثة الإسلامية إلى السكان العائدين خزانات مياه، إضافة إلى منحها مساعدات عينية من وقت لآخر. كما تنشط في مجال المساعدة شركة «وعد» التي أرسلت بعض مهندسيها للكشف على المنازل وتخمين ما تحتاج إليه في عملية الترميم والمساعدة في ذلك. أما الأونروا، وبعد الطلبات المتكررة من السكان لمساعدتهم في ترميم منازلهم، فلا جواب عندها سوى أن الموضوع ليس من مهامها، وهي مسؤولة فقط عن مساعدتهم قبل الحرب، وتنتظر مثلها مثلهم الأموال التي جمعتها الدولة اللبنانية من مؤتمر الدول المانحة لإعادة إعمار المخيم.
ساهمت بعض المنظمات غير الحكومية الأوروبية، من النرويج وفرنسا، ببعض المساعدات التي راوحت الواحدة منها بين الثلاثمئة والستمئة دولار أميركي فقط.
لا يستطيع أحد الدخول إلى المخيم القديم إلا في بعض الأماكن المتداخلة بين الجديد والقديم، فالجيش يحكم سيطرته الكاملة على كل ما تبقى من شوارع وزواريب وأزقة تحيط بالمربع الأمني الرمادي، مما يجعلك تتساءل عما في داخله. وهذا التأهب يجعل العديد من سكان المخيم مقتنعين بما يتردد عن أن العودة هي من المستحيلات، وأن المخيم القديم سيتحول إلى قاعدة عسكرية. بينما يردد آخرون أن الوقت يمر في انتظار انتهاء المخطط الهندسي الجديد للمخيم الذي يقضي بإنشاء أبنية جديدة ترتفع 4 أو 5 طبقات على جوانب شوارع عريضة تسمح بمرور الدبابات والملالات عند أي طارئ.
يمكن رؤية ما أصاب المخيم القديم من خارجه بعدما دُمّر وتغيرت معالمه، فلم يعد هناك سوى عدد قليل من الطرق مع اختفاء الشوارع التي كانت موجودة، وشق الجيش طرقاً جديدة فوق تلال الركام لا تصلح إلا لسير العربات الحربية. أبنية منهارة لم يبق صامداً عليها سوى الصحون اللاقطة، فيما غيرها لم يعد موجوداً وركامه يصلح لردم البحر في حال تم استحداث مشروع سياحي للمنطقة. الشاطئ ممنوع على الناس إلا في شريط صغير يمتد مسافة لا تتعدى النصف كيلو متر جنوب النهر البارد الشمالي.
«السنيورة تعوّد الكذب» يقول أبو محمود في معرض حديثه عن العودة إلى المخيم القديم في البارد وإعادة إعماره. هو واحد من آلاف الأشخاص ينتظرون بدء الأعمال في رقعة الركام الضخمة التي خلّفتها حرب المئة وستة أيام ضد فصيل إرهابي، الخلاف الأكبر كان حول تبعيته لأي دولة من دول الجوار «الصديقة». ويقول أبو محمود إن الناس الذين بقوا في المخيم في بداية الحرب كانت تصلهم أخبار عن مقتل جيرانهم ومعارفهم على الحواجز والمعابر، فخافوا وآثروا البقاء في المخيم وحاولوا النجاة من القصف. من خرج منهم وعاد ووجد بيته منهوباً ومسروقاً ندم على الخروج بعد ضياع مدّخرات العمر.
يحقد سكان البارد اليوم على المسؤولين اللبنانيين كافة، موالاةً ومعارضةً، لما أوصلوهم إليه: لم يعد هناك رجعة إلى الوراء، فقد ضاع المخيم ونسيهم الناس وسط تجاذبات السياسة اللبنانية الضيقة، وإذا تذكرهم أحد فللمتاجرة بهم.
منظمة التحرير تتفق مع السفارات الغربية والعربية حول رفض استقبال الفلسطينيين، ناهيك عن إعطائهم تأشيرات للخروج من لبنان، فيما لم يعد أمام من يُعاد تهجيره بشكل مستمر سوى الهجرة: لقد تحقق لبعض اللبنانيين ما أرادوه، فقد كفر الفلسطينيون بالعيش في لبنان.



كثرة إتهامات

تركت أم جهاد بيتها في المخيم الجديد بعد بدء المعارك بأيام. كان الجيش قد تسلّم زمام الشارع بأكمله، فاطمأنت إلى مصير منزلها ومحتوياته. لم تنزعج من الزجاج المكسور والحائط المتضرر في إحدى الغرف بعد العودة، و«شكرت الله إنو مصيبتنا هوينه جنب مصيبة غيرنا»، ولكنها فوجئت باختفاء مبلغ 200 ألف ليرة كانت تحتفظ به في آنية زجاجية صغيرة فوق التلفزيون، وقطع ذهبية لابنتيها نسيت حملها وقت هربوا من المنزل في بداية الحرب. لا تريد أم جهاد توجيه اللوم إلى أحد في ما يتعلق بالسرقة، ولكنها تقول إن جماعة «فتح الإسلام» كان معهم ما يكفيهم من الأموال لشراء شقق في أحياء راقية في طرابلس «ما راح يتطلعوا بكام قطعة دهب صغار»، وتضيف أنهم لم يكونوا أصلاً في حيهم وبقوا في المخيم القديم، فيما كان الجيش اللبناني يسيطر على المناطق الجديدة كلها.
قصى ام جهاد تتكرر على أكثر من لسان وبنسخ متنوعة.