جوان فرشخ بجالي
عثر علماء الآثار على ميدان سباق الخيل الروماني في وادي أبو جميل في بيروت. إنه معلم ضخم يمتد إلى أكثر من 90 متراً، ويحافظ على كل عناصره الهندسية، ما يسمح بترميمه وتحويله إلى موقع أثري سياحي. ولكن كما هو معلوم، فالمحافظة على المواقع الأثرية في بيروت معضلة لا تزال تداعياتها مطروحة للنقاش والمداولة
اكتشاف أثري جديد في وسط بيروت يعيد إلى الواجهة التساؤلات بشأن المحافظة على تاريخ هذه المدينة العريقة. إنه ميدان سباق الخيل الروماني، معلمٌ لم يكن معروفاً من قبل. فميادين السباق هي معالم لا تشيّد إلا في جوار المدن الرومانية المركزية المهمة. فحتى وقت هذا الاكتشاف، لم يكن معروفاً في الشرق الأوسط إلا أربعة ميادين سباق خيل: جرش في الأردن وبصرى في سوريا وقيسارية في فلسطين وصور في لبنان. وما يميّز ميدان بيروت عن باقي المدن هو أنه مبني داخل حدود المدينة، وبالقرب من المنطقة السكنية. فالميدان الروماني ملاصق للكنيس اليهودي الواقع في وادي أبو جميل ولا يبعد إلا بضعة أمتار عن الأسوار الرومانية والمنطقة السكنية والحمامات التي اكتشفت سابقاً في الوسط التجاري الحالي خلف شارع المصارف.
إن اكتشاف هذا المعلم التاريخي يؤكد الدور المهم الذي كانت تلعبه مدينة مدرسة الحقوق في تلك الفترة. فهو ميدان ضخم، ترتفع مدرّجاته لعدة أمتار، وتمتد حلبة السباق إلى أكثر من 90 متراً ولا يزال يتوسطها الحائط الفاصل الذي كان يدور من حوله المتبارون.
ويقول أسعد سيف، مسؤول الحفريات الأثرية في المديرية العامة للآثار إنه «يمكن اعتبار هذا المعلم الأثري من أهم الاكتشافات وأكثرها ضخامة في وسط بيروت منذ بداية الحفريات سنة 1993. فالمعلم مكتمل هندسياً، ولم يتعرض لأية إعادة استعمال في فترات لاحقة. والبناء الذي شيّدت عليه المدرّجات لا يزال في مكانه ولم ينقص إلا الحجارة التي كانت تغطي الأدراج والتي سرقت في السابق».
وخلال التنقيبات الأثرية التي بدأت منذ ثلاثة أشهر وتستمر لثلاثة أخرى، كُشف عن جدار المدرّجات وعن الأعمدة المنحوتة وتيجانها، وقد سقطت في مكانها كما لو أنها «انهارت» جرّاء هزة أرضية ولم تُرفع مجدداً.
وقد عثر في إحدى الطبقات الأثرية المنقّب عنها في أرض الميدان على كمّ كبير من القطع النقدية الرومانية. فهل ترمز تلك إلى تقليد معيّن؟ هل كانت العادة تقضي بأن ترمى الأموال على المتباري المنتصر مثلاً؟ «قد يكون ذلك ما حدث، ولكن الإجابة الأكيدة لا تأتي إلا بعد الدراسة التاريخية لتقاليد تلك الحقبة «كما يقول سيف. لذا، فلا يزال العمل قائماً على الموقع. فالعلماء يحفرون رقعة الأرض الواقعة بين المدرّجات والحائط الفاصل، وقد عثروا فيها على مقابر وأبنية تعود إلى الفترة الهلنستية.
أن تجري الحفريات الأثرية بتنظيم وأن تنشر المعلومات في المجلات العلمية أمر محتّم. فالمديرية العامة للآثار تعمل في هذا الإطار منذ أكثر من عقد، ولكن هذا الاكتشاف المهم يعيد فتح باب المحافظة على المعالم الأثرية في مكانها الأصلي على مصراعيه. بالنسبة إلى فرديريك الحسيني، المدير العام للآثار في لبنان، «لا يزال الوقت مبكراً للتساؤل عن مستقبل ميدان سباق الخيل هذا، وخصوصاً أن الحفريات الأثرية لا تزال جارية على الأرض وبرنامج عملها سيمتد إلى الأشهر الثلاثة المقبلة». ولكن الوقت يمر بلمح البصر، وقد أظهرت التجارب السابقة في بيروت أنه إن لم تكن المقررات المستقبلية بالنسبة إلى المواقع واضحة، فعملية الجرف تتم بدقائق ويبدأ من بعدها «البكاء على الأطلال». فماذا سيكون مصير الميدان الذي يقول سيف «إنه لا يزال يحتفظ بكل عناصره المعمارية الأساسية، ما يسمح بالمحافظة عليه. فهناك المدرّجات المرتفعة والأعمدة التي كانت تزيّنها، ويتوسطه «العمود الفقري» أو الحائط الذي كان يدور حوله المتبارون. والعثور على هذه العناصر في موقع واحد يسمح لنا بترميمه إلى حد كبير، وحتى إعادة إعمار بعض أجزائه بشكل علمي، ما يحوّله إلى معلم سياحي بامتياز».
للمحافظة على ميدان سباق الخيل ثلاثة طرق لا رابع لها. إما أن تقرر الشركة العقارية المالكة (سوليدير) تغيير برنامج عملها وإلغاء البناء الذي كان مقرراً وتحويل المنطقة إلى موقع أثري مدرج على لائحة المواقع السياحية. وهذا احتمال بعيد كل البعد إذا ما نظر المراقب عن كثب إلى تعامل شركة سوليدير مع الحفريات الأثرية في بيروت خلال العقد الماضي.
أما الحل الثاني فهو أن تستملك المديرية العامة العقار، وتحوّله إلى موقع سياحي، وهذا أيضاً احتمال صعب جداً نظراً إلى ضعف ميزانية المديرية السنوية (فهي الأقل بين كل دوائر الدولة)... ويبقى أن يشتري العقار محبّ ومناصر للتاريخ، ويقرر المحافظة عليه، فتعمل الجهات المختصة على ترميمه وتأهيله، وقد تساعد الهيئات والمنظمات الدولية في تكاليف المحافظة. ولكن يبقى أن يهتم أحدهم بهذا العقار. وهنا تجدر الإشارة إلى أن قصر النائب سعد الحريري يطل على ميدان سباق الخيل الروماني وعلى الحديقة العامة المحيطة به. فإن أراد النائب الحريري أن يكون لقصره منظر يشبه أو حتى يتخطى إلى حدٍّ كبير تلك التي تتمتع بها قصور روما، فالفرصة الذهبية سانحة الآن، ويكون في الوقت نفسه قد أنقذ بعضاً من تاريخ الوطن وأحد معالم بيروت النادرة. أوليست العاصمة «مدينة عريقة للتاريخ؟».