العباسية ــ آمال خليل
جولة سريعة في شوارع مدينة صور، تبدّد رأي من يتهرّب من ضرورة إنشاء دور لرعاية المسنين حتى بين القرى، حيث من المفترض أن جناح القيم والأواصر الاجتماعية لا يزال يحفظ الناس في حضنه. وإذ يوضع جانباً دور وزارة الشؤون الاجتماعية ونظام ضمان الشيخوخة المنشودين، فإن دورة الحياة السريعة وكثافة الهجرة تدفعان بالأبناء إلى انشغالاتهم أو إلى أقاصي الأرض، فيما يبقى والدا كل منهم بانتظار الإحسان من مسعفات المنازل اللواتي يوظفهنّ الأبناء لخدمتهم، أو من أولاد الحلال عندما تقلّ الحيلة.
قبل سبعة أشهر، افتتحت جمعية المبرات الخيرية مركز السيدة فاطمة الزهراء الصحي الاجتماعي الخيري في العباسية (قضاء صور) وكان أبرز أقسامه إضافةً إلى العيادات الخارجية ومركز الشفاء للعلاج الفيزيائي والنادي الرياضي، دار الأمان لرعاية المسنين الذي يعد الأول من نوعه في الجنوب وفي مؤسسات جمعية المبرات في لبنان. ويوضح مدير المركز مصطفى نور الدين أن مجلس إدارة الجمعية «استعاض عن تأسيس دار للعناية بالأم والطفل بآخر للعناية بالمسنين، واختار الجنوب لحاجته إلى هذا النوع من الخدمات المختصة». وإذ يقرّ بعدم تجاوب المجتمع مع المبادرة «المغامرة» بحسب وصفه لوجود نزيلتين فقط في الدار بالرغم من مرور أشهر على افتتاحه، الذي سبقه إجراء دراسة اجتماعية ونفسية عامة لقياس مدى تقبّل المجتمع له، فإنه يرى أن «القرار موجود لدى البعض بإيداع أهلهم في دار رعاية مختص، لكنهم لا يقدمون على الخطوة خوفاً من كلام الناس الذين يصفونهم بأنهم جاحدون وعاقّون». ويدعو نور الدين إلى «التفكير بشكل منطقي تجاه كبار السن المتروكين وحدهم من دون رعاية بغياب أبنائهم فيما الدار في قلب الجنوب»، وتشتمل على 40 سريراً في غرف مجهّزة بوسائل الترفيه والخدمات الصحية والفندقية والعلاج التأهيلي النفسي والاجتماعي والمكتبة العامة والنشاطات الثقافية والترفيهية داخل وخارج المركز.
الأمان من الإحسان
مقارنةً بالظروف المعيشية التي كانت تعيش الحاجة فاطمة (85 عاماً) فيها، فإن وجودها منذ أكثر من شهر في رعاية دار الأمان للمسنين في العباسية يعدّ الإحسان كله وليس دافع شفقة. قبل عقود تزوجت السوري محمد العجمي وأنجبت منه طفلاً خطفه أبوه لاحقاً منها ونقله إلى سوريا معه، ومنذ ثلاثين عاماً لا تعرف عنهما شيئاً. في الواقع هي تعرف ولا تعرف حتى نفسها بسبب مرض (نشفان في الرأس) الذي تعانيه منذ سنوات عندما تولّى أبناء أخيها العناية بها إلى أن سمعوا بافتتاح الدار في المنطقة فقرروا أن يعهدوا للقيمين عليها بها، حيث لم ينقطعوا عن زيارتها في الوقت ذاته. تضجّ الحاجة فاطمة بالمرح والكلام والأهازيج التي لا تصمت في الغرفة الخاصة بها؛ لعلّها سعيدة جداً بما هي عليه، إن كانت تعيه لأنها لا تريد مغادرة المكان. في الغرفة المجاورة، تقيم جارتها الوحيدة الحاجة خديجة (87 عاماً) التي جرّبت قبلاً الإقامة في دار للمسنين حيث تعرّضت لمعاملة سيئة بل أكثر من ذلك، بحسب ابن أخيها الذي ليس لديها أحد سواه بالرغم من أنها تزوجت أكثر من مرة لكنها لم تنجب أولاداً. الحاجة خديجة أو كومة الحزن المزمن الصغيرة التي تتقوقع في السرير من دون حراك في معظم الأوقات، لا ترى بسبب العنف الجسدي الذي تعرضت له من زوجها الأول. ولأن أذى الرجال لم يتوقف ضدها، كانت تصرخ وتنهار كلما سمعت صوتاً ذكورياً وترجوه بأن يبتعد عنها ولا يعتدي عليها؛ تخصّص إدارة الدار لها منذ مجيئها جلسات تأهيل نفسية.
في الدار، تجول مظهر الصبا الوحيد الممرضة حوراء فقيه (24 عاماً) التي تتولى رعاية العجوزين وتشرف على راحتهما. تقول الصبية إن «القدر قد ينقلب عليها كما انقلب على من مرّ الصبا عليهما أيضاً وما من شيء قد يحميها من هذا المصير حتى لو تزوّجت وأنجبت أطفالاً». لذا تراها تعتاد فكرة الدار وتقرّبه من والديها اللذين تأبى أن تودعهما يوماً في دار للمسنين ما استطاعت إلى رعايتهما سبيلاً. ثم تقول إن خبايا القدر غدّارة بها وبكل الناس. في يد حوراء، حبّات سبّحة تدوخ عن الدوران بين أصابعها وضميرها وواجبها وخوفها من الآتي.