strong>جوان فرشخ بجالي
لآلاف السنين كان نهر الكلب أحد أصعب المعابر الطبيعية لجيوش الغزاة على الشاطئ اللبناني. صعوبته حوّلت المرور عليه الى إنجاز أرّخه الملوك بمسلات نقشت على الصخر حتى بات عندنا اليوم 22 مسلة تروي 22 قصة تاريخية بتفاصيلها الصغيرة والكبيرة

يُعدّ رأس جبل نهر الكلب، الناتئ في البحر، (promontoire) من أهمّ المواقع الأثريّة في لبنان، والشاهد الحيّ على كلّ الجيوش التي غزت هذه البقعة، وعلى تأسيس الدولة اللبنانية، مع وجود 22 مسلّة تروي 22 قصة تاريخية. وشكلت هذه المسلات عنواناً لمحاضرة احتضنها متحف الجامعة الأميركية في بيروت تحت عنوان «مسلات نهر الكلب من الألف الثاني قبل الميلاد إلى الألف الثاني بعده». قدّمت فيها آن ماري عفيش كامل المعلومات التاريخية المتوافرة عن الموقع والمسلات.
لأكثر من ساعة بقيت عفيش تشرح أهمية هذه المسلّة وتلك، وتخبر بعضاً من القصص التي تُروى حولها أو التي تكشف الظروف السياسية التي رافقت نقشها على الصخر. وآن ماري عفيش، هي عالمة آثار تعمل في المديرية العامة للآثار في بيروت، وكانت مسؤولة عام 2002 عن تأهيل موقع نهر الكلب، وهي الآن مسؤولة عن إصدار مجلة المديرية العلمية BAAL.
«إن موقع نهر الكلب هو بمثابة متحف في الهواء الطلق من حيث اختلاف تاريخ المسلات ونقشها وفنها والكتابات المدوّنة عليها. ففي نهر الكلب 7 لغات مؤرّخة. وإذا كانت المسلات القديمة (التي أنجزت بين الألف الثاني والأوّل قبل الميلاد) تهدف إلى إظهار قوة الملوك «الإلهية» فينقش رسم الملك، فإنّ الحديثة قد تكون لغايات سياسية (مرور جيش) أو حتى حياتية مثل افتتاح خط سكة الحديد».
وقد بدأ الملوك بتخليد مرورهم فوق الجبل لصعوبة تخطيه كحاجز طبيعي. فموقع نهر الكلب عبارة عن «جبل» يقع مباشرة في مياه البحر. ولفهم الصعوبة الجغرافية يجب أن يتغاضى المرء عن منظر الطريق السريع الذي افتتح مؤخراً والذي نشأ بسبب «ردم» البحر عند أسفل الجبل، ويجب أيضاً أن يتناسى النفق الذي يمرّ من تحته. حينها، يمكن فهم «استحالة» مرور الجيوش التي يتخطى عددها الآلاف والتي تستعمل الأحصنة والعرباتوتلك الصورة تبدو واضحة جداً إذا ما توقف الزائر أمام المسلات المصرية والأشورية عند أعلى الجبل. وتشرح عفيش «أن أقدم المسلات هي المصرية التي تصوّر الفرعون رعمسيس الثاني وهو يمسك عدوه الجاثي أمامه من شعره، وفوقه علامات الإله رع. وهناك كتابات باللغة الهيروغليفية ولكن يستحيل فهم نصها بسبب تآكل الحجر الكلسي. وإن كانت للفرعون ثلاث مسلات، فالملوك الآشوريين خلّدوا نفسهم بستّ مسلات يستحيل الآن فهم نصّها أيضاً بسبب التآكل ولكن يمكن تأريخها بحسب طابعها الفني. وتشهد هذه المسلات على الوضع السياسي في المنطقة في الألف الأوّل قبل الميلاد حينما كانت مدن الساحل تقوم بالانقلابات على الغازي الأشوري بعدما تقدّم إليه مصر الدعم الضروري. فحينها، كان يأتي الملك الأشوري على رأس جيشه ليقمع المدن ويأخذ الفدية، مثلما فعل أسرحدون الذي خلّد وجهه على صخور نهر الكلب».
وتقول عفيش إن لبعض من تلك المسلات تاريخاً «طريفاً إذ يخبر ليس فقط عن الحروب بل حتى عن محاولات الجيوش محو آثار غيرها. فمسلة ملك فرنسا نابوليون الثالث منقوشة مرتين على الصخرة نفسها. وكان الملك الفرنسي قد أرسل سنة 1862 فوجاً عسكرياً مؤلفاً من 7000 رجل للتدخل في الجبل الذي كان يعيش المجازر الطائفية. وعند انتهاء عمل الجيش عمد المسؤول على نحت مسلة لتخليد مرورهم، فما كان منه إلا أن طلب نقشها على مسلة للفرعون المصري رعمسيس الثاني». وتشرح عفيش خلفيات «إعاة الاستعمال هذه على أن لها أبعاداً سياسية، فهي بمثابة رسالة الى الباب العالي، وجاء جواب هذا الأخير بمحو المسلة من جانب جنوده حينما أعادوا السيطرة على الوضع... لكن، هذا ما لم يقبله الفرنسيون الذين أعادوا حفر مسلة الملك نابوليون سنة 1919 فوق المسلة العثمانية! وبقي «التلاعب بالمسلات» هذا جارياً في فترة ما قبل وخلال الحرب العالمية الأولى بين جيوش الحلفاء والقوات التركية».
والجدير بالذكر أن المسلات تختلف أحجامها وأشكالها بحسب الرغبة. فأكبرها حجماً هو المسلة المملوكية التي نقشت أمام الجسر الذي بناه السلطان برقوق تحسباً لغزوات تيمورلانك المغولي. وهي مؤلفة من 10 أسطر وكانت مؤرّخة، ولكن شاء «القدر» أن تنكسر الصخرة بالتحديد على التاريخ.
بعد الغزاة، استعملت القوات الفرنسية والإنكليزية الموقع لتؤرّخ تحرّكات جيوشها ودخولها إلى لبنان، ومن ثم استعملته السلطات اللبنانية لتضع عليه مسلة الاستقلال الشهيرة. ولأنّ هذا الموقع الأثري لا يزال «حياً» في الحياة اليومية فقد أضيفت إليه سنة 2000 مسلة جديدة تؤرخ ذكرى انسحاب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان. وكانت تلك القوات قد حاولت «تخليد» غزوها لبيروت سنة 1982 حينما «وضع بعض من مجنديها إمضاءاتهم على مسلة الاستقلال»، كما روت الدكتورة ليلى بدر التي أضافت أيضاً إن أصدقاء لها حينما علموا بالحادثة توجهوا الى الموقع ونظفّوا المسلة. فالتاريخ لا يكتبه الفاتحون والمحتلون فقط إنما أيضاً الشعوب التي عرفتهم.
إن أهمية الموقع التاريخية سمحت للمديرية العامة للآثار بتقديم طلب تصنيفه على لائحة «ذاكرة العالم» في اليونسكو، وقد تم ذلك سنة 2005. والجدير بالذكر أن الموقع قد جرى تأهيله من جانب «المؤسسة اللبنانية للتراث» سنة 2003، وهو الآن مجهز بحائط كبير يخفّف من ضوضاء الخط السريع، كما أنّ هناك حواجز من الحديد تزيل خطر الزيارة، إذ تحدّ من الوصول إلى الهاوية. إضافةً إلى تأمين سلامة الموقع، فقد لُحِظ في مشروع تأهيله تقديمه الى الزائرين بشكل علمي ومبسّط، وأمام كل مسلة نص (بثلاث لغات) يشرحها ويحددها تاريخياً.
كل ذلك يحوّل زيارة الموقع الى وقت ممتع، وخصوصاً أن القسم الأعلى من الموقع يمثّل انقساماً مع القسم الأسفل، فالطريق تصبح «بعيدة» والمنظر رائع. لكن تجدر الإشارة إلى أنّ الموقع «مقفل» ببوابة كبيرة وزيارته يجب أن تتمّ بالتشاور مسبّقاً مع المديرية العامة للآثار.

أسطورة الكلب


يضيع أصل تسمية نهر الكلب بين الأسطورة والحكايات التاريخية.
ففي القرن الرابع عشر كتب فارس أرفيو عن «تمثال لكلب منحوت في الصخر في أعلى رأس الجبل (promontoire)،وبنباحه العالي الذي يصل إلى جزيرة قبرص ينذر الأهالي بوصول جيوش الأعداء».
وتقول الأسطورة «إن العثمانيين قطعوا التمثال ورموه في قعر البحر حيث لا يزال يظهر حينما تكون المياه
هادئة».
تلك هي الأسطورة، لكن الغرابة ما ورد في تقرير للشركة الأوسترالية التي شقت سكة الحديد التي تصل بيروت بجونية، جاء فيه «إنهم رأوا في البحر تمثالاً ضخماً منحوتاً على شكل كلب».