صور ـ آمال خليلصيدا ـ خالد الغربي

في الأساس، شرارة الحرب الأهلية الأولى بلون البحر. فقد فجّرت تظاهرة الصيادين في 27 شباط 1975 الحقد الطبقي المتبادل بين الفقراء والرأسماليين وبين السلطة والشعب، حتى غرقت البلاد بالدم والخوف سبعة عشر عاماً. فلا العدالة الاجتماعية تحقّقت لهم، ولا الوطن نجا من الموت


لا يذكر عماد (37 عاماً) تظاهرات آبائه الصيادين في الستينيات والسبعينيات التي كانت تهزّ الحكومات والحكّام. فعلى عهده، صار البحر مذلّة، وقوارب الصيد أصبحت يداً ممدودة «لاستعطاف من هبّ ودبّ» من القوى المحلية والنافذين الذين يوزّعون الخير مساعدات وأدوية على أصحاب الحظ، بعد أن ملّ الصيادون المطالبة بإدخالهم في الضمان الاجتماعي. لكن عماد يدرك، بعد البحث والتدقيق، أن إطلاق الرصاص على صدر قائد تظاهرة الصيادين ضد الحكومة في صيدا، معروف سعد، «قتل صوت الاعتراض وخنق حنجرة الحق».
في هذا اليوم من عام 1975، فاض البحر عبر تظاهرة صيّادي الأسماك في صيدا ضد شركة «بروتيين»، التي كان يرأس مجلس إدارتها الرئيس الأسبق كميل شمعون. وإذ استقطبت التظاهرة صيادي لبنان، فإنها لم تنته باغتيال قائدها الشهيد معروف سعد واندلاع الاشتباكات بين السلطة والناس، ثم بين كل القوى وكل الناس. الصيّاد محمد شعبان (70 عاماً) الذي كان يسير في جوار سعد في التظاهرة ورأى من أين انطلقت الرصاصة لتصيبه، حمّل مسؤولية اشتعال الحوادث لشركة «بروتيين» الاحتكارية والسلطة التي حمتها، لا للصيادين الذين كان من الطبيعي أن يحتجّوا على وجودها.

نضال الصيادين ... المجد الضائع

لا يبدو الصيادون اليوم قادرين على تغيير واقع حالهم المعدوم أو استعادة إضراب واحد من تحرّكات الأمس، بالرغم من استحداث تعاونيات ونقابات لهم.
لا يذكر فضل حاجو (25 عاماً) أي تحرّك مطلبي أقيم في ميناء الصيادين في صور حيث نشأ منذ عام 1990، «بل إن كل حكايا الإضرابات والاحتجاجات التي سمعها، تعود إلى ما قبل نشوب الحرب الأهلية». يقول فضل إنه لا يعرف دور النقابة أو التعاونية الحقيقي، لكن كل ما يعرفه أن «النقابة تُعنى بتجديد البطاقات والرخص البحرية، أما التعاونية فتحاول تأمين جزء من ثمن الدواء للمرضى منهم». أما الفلسطينيون بينهم، فلا يحق لهم الحصول على رخصة بحرية للصيد.
يقرّ نقيب الصيادين في صور خليل طه «بالفوضى وموت الحركة المطلبية وسيطرة بعض القوى السياسية عليها»، لكنه ربطها «بالوضع العام الذي آل إليه لبنان بسبب الحرب الأهلية وغياب الدولة التام عن هذا القطاع الذي اتّجه للبحث عن البديل». أما محمد شعبان، فرأى أن «بيع بعض الصيادين أنفسهم لقوى السلطة والمال، ضرب النضال الاجتماعي، وأفقدهم الموقف القوي الموحّد، وأصبحت النقابات دكاكين لهذا الزعيم أو ذاك الحزب»، إضافة إلى «غياب القيادة المناضلة التي تحمي حقوق الفقراء، مثل معروف سعد الذي حُمل على قارب صيد خلال تشييعه، وكأن البحر قد اغتيل باغتياله حتى جفّ رزقه وتحوّل إلى مستوعب لأطنان النفايات في صيدا، وبركة لتجميع الصرف الصحي في صور».

الصيداوي الأسطورة

في صيدا، ثمة حكايات عن الشهيد معروف سعد تتوارثها شريحة واسعة من الناس، تصل إلى حدود «الأسطرة» لكل من عايشوه. هؤلاء يؤكدون أن لا مبالغة في القول إنه أسطورة نضالية بحد ذاته وبطل تقدّم الصفوف. وهناك في أحياء المدينة القديمة يحدّثك ليس فقط أولئك الذين «ما بدّلوا تبديلا» بل حتى من كانوا في خانة المؤيّدين لغير خطه، عن معروف «الهمشري» و«الزعيم الشعبي»، أبو الفقراء، والوطني البطل الذي اقتحم ذات يوم قشلة صيدا لتأديب سلطة الانتداب غير عابئ بوابل النار الذي أصابه، صافعاً الكومندور في الدرك «المدور» لأنه وأسياده الأجانب أساؤوا إلى المواطنين، وعن بطولته في أرض المعركة والجهاد في أرض فلسطين، ولا سيما في معركة المالكية، واصطياده لعصابات الصهاينة، وعن القوة البدنية التي أهّلته ذات يوم لأن يقارع الموج العاتي في قلب العاصفة لإنقاذ مركب، وعن كيف كان باستطاعته قلب السيارات، وعن الزند القوي الذي يسترد الحق. ويؤكد محمد جرادي «أن الزعامة خُلقت لمعروف وبس. وين بعد في زعيم بيستقبل في أي وقت. وصدّق كنا نفوت ع غرفة نَوْمو إذا في شي مشكل وما نستحي، ما هو كان رافع الكلفة، شو ما منحكي عن جَد قليل. بطل بكل معنى الكلمة قتلتوا الرجعية».
ويشير محمد السعودي «أبو عماد» إلى أن قيمة معروف سعد، الذي هو «أبو الفقراء بامتياز»، تكمن في انحيازه المطلق ودون تردد إلى قضايا الناس، ولاسيما الكادحين، وإلى القضايا الوطنية والعروبية، وفي ربطه للصراع القومي والوطني والاجتماعي المطلبي، وإن أي مسؤول ينوء بحمل واحدة منها، لكنه جمعها. فلا حرية سياسية من دون حرية رغيف الخبز، لذلك كانت معاركه تدور في أكثر من ميدان من المقاومة في فلسطين إلى عروبة لبنان والثورة على الأحلاف والنظام الطبقي الطائفي، إلى السعي من أجل العدالة الاجتماعية، إلى الوحدة الوطنية، إلى الناصرية وزعيمها جمال عبد الناصر، والوحدة العربية التي آمن بها حتى الثمالة. وبين كل هذا، لم تغرّه المناصب، فبقي وفياً لطبقته، وهو الإنساني حتى الموت، والثوري الذي خطّ بدمه مسيرة الدفاع عن لقمة عيش الفقراء والشعب الكادح. «أين نحن من وطنية وإنسانية معروف سعد؟». يسأل السعودي. وكما في كل عام، وحيث بات إحياء الذكرى أحد الطقوس الوطنية في المدينة، رُفعت في المدينة صوره ولافتات تشدّد على معاني الذكرى وعلى التمسك بخيار المقاومة والدفاع عن مصالح الشعب.
وقد زار رئيس التنظيم الشعبي الناصري النائب أسامة سعد ضريح الشهيد، في حضور ممثلين عن الأحزاب والقوى والفاعليات اللبنانية والفلسطينية، وممثلين عن الهيئات الاجتماعية والثقافية والنقابية والمؤسسات الأهلية في مدينة صيدا وعائلة الشهيد.
وقال النائب سعد في كلمة: «منذ 33 عاماً ونحن ننتظر جلاء الحقيقة في جريمة اغتيال الشهيد معروف سعد، واليمين اللبناني المتورط مع العدو الإسرائيلي والغرب هو المسؤول عن هذه الجريمة، وهو المسؤول أيضاً عن عدم كشف الحقائق بشأن هذه الجريمة. ومن المؤسف أن نقول إن القضاء متواطئ مع هؤلاء في عدم كشف الحقيقة حتى الآن».
وأكد سعد أن المعارضة الوطنية اللبنانية تحرص «على الأمن والاستقرار، وتتمسك بالحل السياسي وتصرّ عليه، لكن الفريق الذي يأتمر بإمرة الأميركيين هو الذي يعطّل الحلول».
وللمناسبة، أصدر التنظيم الشعبي الناصري بياناً أعرب فيه عن «ثقته التامة بقدرة الشعب اللبناني على تحقيق الانتصار مجدداً على الهجوم المعادي». وختم البيان: «تمثل سيرة معروف سعد الكفاحية خير معين لنا على مواجهة هذا الهجوم».