ملاك مكي
يبدأ الناشط الفرنسي جوزيه بوفيه، اليوم، إضراباً عن الطعام احتجاجاً على عدم التزام الحكومة الفرنسية الحدّ من زيادة انتشار المزروعات المعدّلة جينياً (OGM). لماذا الإضراب؟ وما الجدل الحقيقي الذي يثيره انتشار تلك المزروعات، وخصوصاً أن مشكلة الجوع في العالم سببها سوء توزيع الغذاء لا تقنيات إنتاجه

يمثّل التعديل الوراثي مبدأً أساسياً في تطوّر الأنواع البيولوجية منذ بدء الزراعة. وقد عمل الإنسان، من خلال الانتقاء، التلقيح، على إنتاج أنواع جديدة من المزروعات أفضل نوعية، أوفر مردوداً، وأكثر مقاومة للأمراض والجفاف.
وبفعل تطوّر علم الوراثة ومعرفة خصائص الجينات، ومن خلال التقنية الحيوية (biotechnologie)، أصبح من الممكن إنتاج مزروعات معدّلة وراثياً، تخضع لعملية نقل الجينات (المورّثات) من نوع الى آخر، ويمكنها الازدهار في ظروف قاسية ــــــ في جفاف وحرارة أو برد ــــــ كما يمكنها مقاومة مبيدات الحشرات والأعشاب. أكثر من ذلك، تسمح هذه التقنية باستخدام أراض لا ترقى إلى المستوى المطلوب لإنتاج محاصيل مهمة، كما تزيد من الفائدة الغذائية لصحة البشر وتغذيتهم من خلال توفيرها الفيتامينات الأساسية والأحماض الأمينية والبروتينات للمساعدة في القضاء على سوء التغذية والأمراض.
وعرّفت منظمة الصحة العالمية الكائنات المحوّرة جينياً بأنها كائنات تغيّرت فيها المادة الوراثية بطريقة لا تحدث بصورة طبيعية، وهي تمكّن من نقل بعض الجينات المنتقاة من كائن عضوي ما إلى كائن عضوي آخر، أو بين أنواع حية ليست بينها علاقة، يجري إدخالها باتّباع طرق مختلفة، وهذا ما يسمّى غالباً التكنولوجيا الوراثية أو التكنولوجيا الإحيائية أو الهندسة الوراثية. وتعتمد تقنيات متنوّعة لإنتاج نبتة معدّلة وراثياً.تشير آخر الإحصاءات الصادرة عن International Service for the Acquisition of Agri-biotech Applications (ISAAA) الى أن مساحة أراضي المزروعات المعدّلة وراثياً في العالم تقدر لعام 2006 بـ102 مليون هكتار، حيث تحتل الولايات المتحدة المركز الأول، إذ إنها تزرع في 48 مليون هكتار، تليها الأرجنتين (16 مليون هكتار) فكندا (6 ملايين هكتار) والبرازيل (4،8 مليون هكتار) والصين (4 ملايين هكتار)، ومن أهمّ المزروعات المعدّلة جينياً: حبوب الذرة، فول الصويا، القطن.

إيجابيات التعديل الوراثي

يشهد العالم اليوم سجالاً حاداً بين مؤيدين ومعارضين للمزروعات المعدّلة جينياً. ويجد المشجّعون في هذه المزروعات فوائد كثيرة منها زراعية كمقاومة حبوب الذرة لحشرة pyrale. كذلك مقاومة نبتة القطن للحشرات، وجعل شمندر السكر متسامحاً مع مبيد الأعشاب «glycophosate». وتجعل هذه التقنية شجر الفواكه مقاوماً لفيروس sharka ما يسمح بتفادي خسارة 160،000 طن من الفاكهة في أوروبا. ومن خلال إنتاج ورق أفضل يحتوي على نسبة أقل من مادة lignine، جرى الحدّ من استعمال بعض المواد الملوثة.
بالنسبة إلى القيمة الغذائية للمواد المعدّلة وراثياً، سجّل هذا المجال تحسين نوعية بعض الأغذية كإنتاج أرز أكثر غنى بـ provitamine A، وإنتاج زيوت كالصويا والكانولا تحتوي على معدلّ أقل من الأحماض الدهنية المشبّعة وزيادة حمض الأوليك مما يساعد على الوقاية من أمراض القلب والأوعية الدموية.
كما ساعد على تقليص استعمال مبيدات الحشرات والأسمدة،، وحدّاً من نسبة تعرية الأراضي والتربة. ويأمل الباحثون استغلال المزروعات المعدّلة جينياً لإنتاج اللقاحات والأدوية كاستخراج الانزيم lipase من الذرة لمعالجة الأطفال المصابين بـ «mucoviscidose». من جهة أخرى، وحسب منظمة الأغذية العالمية (الفاو) ليس هناك دليل قاطع على أن المنتجات المعدّلة وراثياً تمثّل خطراً على صحة الإنسان، لكن سُجلت بعض الحالات التي سبّبت نوعاً من الحساسية لدى الإنسان كفول الصويا المعدّل بجين مستخرج من جوز الهند البرازيلي.

أسباب الاعتراض

إذاً لماذا يعارض بوفيه ورفاقه انتشار المزروعات المعدّلة وراثياً؟
سلّط التيار المناهض للعولمة النيوليبرالية الضوء على مخاطرهذه المزروعات، منها إمكان نقل transgènes عبر غبار الطلع grain de pollen إلى الحقول الزراعية التقليدية ما يهدّد التنوّع البيولوجي من خلال سيطرة أنواع معينة متطورة على باقي الأنواع. من الناحية الاقتصادية، تزيد هذه المزروعات من تبعية الدول النامية والمزارعين لمراكز الابتكارات الخاصة بالهندسة الوراثية وتركيز القوة والمكسب في أيدي قلّة من الشركات العملاقة المتعددة الجنسية من أهمها « zeneca, novartis, dupont, monsonta, aventis». قضت هذه المزروعات المعدّلة وراثياً على الكثير من المزروعات التقليدية التي كانت تمثّل ركيزة في اقتصاد بعض الدول النامية كالفانيلا في مدغشقر، قصب السكر في كوبا والفيليبين، الكاكاو في أفريقيا واستُبدلت جميعها بمُنتجات معدّلة من جانب دول الشمال. أمّا الكارثة الحقيقية التي يتعرض لها المزارعون، فتتمثّل بعدم إمكان إعادة زرع هذه البذور المنتجة مرة ثانية كما هي الحال في الزراعة التقليدية وذلك نسبة لاستراتيجية بيولوجية terminator تحتويها هذه البذور.
هذه الأسباب جعلت الكثيرين يرفضون المزروعات المعدّلة جينياً.

بروتوكول قرطاجنة

في لبنان، يشير الدكتور ميشال فريم، المدير العام لمصلحة الأبحاث العلمية الزراعية أن المختبرات جاهزة لمراقبة المنتجات المعدّلة وراثياً وكشفها، لكن قرار العمل فيها لم يُتّخذ بعد في الوزارة. وتفيد إحدى أهمّ الشركات الزراعية في لبنان، أنها لا تستورد أيّاً من الحبوب أو البذور المعدّلة جينياً وذلك لكلفتها العالية، وعدم تأمين سوق لها حيث يخشى الناس فكرة الأغذية المعدّلة وراثياً.
من الناحية القانونية، لم يوقّع لبنان حتى الآن بروتوكول قرطاجنة بشأن السلامة الإحيائية التابعة للاتفاقية المتعلقة بالتنوّع البيولوجي الصادر عن الأمم المتحدة والداخل حيّز التنفيذ في 11/ أيلول 2003، الذي يدعو الى الشفافية في تجارة المنتجات المعدّلة جينياً، ويلزم المصدّرين توفير معلومات كافية عن هذه المنتجات قبل وصول أي شحنة الى مقصدها حتى تستطيع الدولة المستوردة أن تقرّر قبولها أو رفضها. وتنصّ مواد البروتوكول على أنه يحق لأي دولة رفض هذه المنتجات حتى إذا كانت منحة وحتى من دون برهان علمي إذا كانت تخشى من ضرر قد يصيب محاصيلها الزراعية التقليدية.
يذكر أن جميع الدراسات التي تستوجبها هذه الاتفاقية قد عولجت في لبنان من جانب منظمات خاصة وعامة.



محطات في حياة جوزيه بوفيه

«55% من العاملين على الأرض هم من المزارعين» أعلن المزارع الفرنسي جوزيه بوفيه مرة... لكننا لا نعرف الكثير عنهم، بل نعرفهم من خلاله، وهو المعروف بنضاله في سبيل قضاياهم متحدياً العولمة النيوليبيرالية، قوانين التجارة الحرة، المزروعات المعدّلة جينياً. من مواليد 11 حزيران 1953. اتسمت حياته النضالية بمعارك كثيرة دفاعاً عن حقوق المزارعين. بدأت بتقرّبه عام 1970 من الحركة العمالية المسيحية ومناهضته للحرب ضد فيتنام. في عام 1973 قام برحلة إلى الهند حيث تقرّب من هيئة (l’arche de lanza delvasto) التي طوّرت فلسفة اللاعنف الفعال (non violence active ) . في عام 1981 كسب معركته ضد حكومة ميتران التي ألغت إقامة قاعدة عسكرية على أرضها (larzac) حيث كان بوفيه يرعى الماشية. وفي عام 1987 شارك في تأسيس confédération paysanne التي عارضت الصناعة الغذائية الزراعية الحديثة.
وعقد في عام 1993 أول مؤتمر لـvia campesina وهي حركة عالمية مستقلة للمزارعين تهدف إلى إرساء قواعد السيادة الغذائية (souveraineté alimentaire) كحق أساسي للشعوب وإعطاء الأولوية للزراعة المحلية في مواجهة الاستيراد الخارجي. في عام 2001، شن معركة ضد الشركة الأميركية Monsanto في البرازيل متهماً إياها بإنتاج الصويا المعدّل جينياً بطريقة غير قانونية. في عام 2004 أعلن عن حملة توقيف تجارب OGM في الحقول، وعمل بوفيه على إتلاف مزروعات الذرة المعدّلة وراثياً في haute - menville.
في 13 حزيران 2006 أعلن ترشيحه لرئاسة الجمهورية الفرنسية وحصل على 1,32% من الأصوات في الدورة الأولى للانتخابات. في كانون الأول سنة 2007 حاكمته الدولة الفرنسية لتعرّضه لحقول الذرة عام 2004، لكنه لم يدخل السجن بل دفع غرامة مالية. واليوم يخوض معركته ضد الـ OGM آملاً أن يكون عام 2008 خالياً منها.



في السوق اللبنانية...

بما أن معظم منتجات فول الصويا والذرة في العالم معدّلة وراثياً، يمكن إيراد الزيوت وعلف الحيوانات المستوردة الموجودة في الأسواق اللبنانية ضمن لائحة المنتجات المعدّلة وراثياً.
لكن الدولة اللبنانية لا تضع، حتى اليوم، أي إشارة تضمن للمواطن حقه في معرفة نوعية هذا الغذاء. وهذا يطرح تساؤلاً كبيراً عن أسباب عدم تصديق الدولة اللبنانية على معاهدة قرطاجنة وعدم مراقبة المنتجات المستوردة: فهل يكون الخشية من الولايات المتحدة الأميركية وشركاتها وخصوصاً أن الأخيرة تسيطر على تقنيات التعديل الوراثي والغذاء في العالم؟ أم أن هناك أسباباً أخرى؟
في انتظار توقيع المعاهدة، يبقى للمواطن اللبناني، إن رغب في التأكد من خلوّ المنتج الغذائي من مواد معدلة جينياً أو وراثياً أن يبحث عن إشارة للشهادة العضوية توفّرها في لبنان مؤسسات خاصة كـ Liban cert والسلة الصحية (healthy basket).