نقولا ناصيف
رسم السجال الفرنسي ـــــ السوري منذ الأحد الفائت (30 كانون الأول 2007)، وتصاعده بوتيرة أكثر تشنجاً، أمس، في دمشق وباريس، صورة قاتمة لما سيكون عليه الوضع اللبناني في المرحلة المقبلة. إلا أنه جزم كذلك، وحتى إشعار آخر، باستمرار شغور رئاسة الجمهورية إلى أن تستعيد هاتان الدولتان حوارهما وعناصر الثقة قبل التوصل إلى صيغة حل للمشكلة اللبنانية. ورغم تفاعل السياسيين اللبنانيين، في قوى 14 آذار والمعارضة، مع مواقف كل من باريس ودمشق تأييداً أو استهجاناً، واقع الأمر أن انتخابات الرئاسة اللبنانية أضحت تفصيلاً في نزاع إقليمي أبعد مدى، وأكثر تعقيداً. وقد لا يكتفى بالاستحقاق الدستوري إحدى وسائل المواجهة هذه، ليتسع النطاق إلى جعل الاستقرار الداخلي برمته تحت وطأة الخلاف الفرنسي ـــــ السوري.
ويبدو واضحاً من الطريقة التي عبّر فيها الفرنسيون والسوريون عن استمرار المأزق اللبناني، أنهما تبادلا سوء تفاهم عميقاً لا يقتصر على وجهة نظر كل منهما حيال الوضع اللبناني، بل يتعداها إلى الخلاف السوري ـــــ السعودي، الأمر الذي يحمل مصادر دبلوماسية معنية على إبراز ملاحظات، منها:
1 ـــــ مع أن وزراء الخارجية العرب سيجتمعون الأحد المقبل في القاهرة لمناقشة المشكلة اللبنانية والفراغ الرئاسي، فإن سلسلة مواقفهم ستشير إلى وطأة انقسامهم حيال الحلول المطلوبة لهذه المشكلة، من غير نجاحهم في التوصل إلى مبادرة عربية جماعية، أو إلى خطة تناط بالجامعة العربية، وتهدف إلى تسويق حل لانتخابات الرئاسة اللبنانية. وبحسب تقويم المصادر الدبلوماسية ذاتها، لن يكون الاجتماع الوزاري المرتقب إلا بروفة لسلسلة أخرى من الاتصالات تعتزم الجامعة العربية إجراءها في الأسابيع التالية، في ضوء اجتماع وزراء الخارجية العرب، توطئة للقمة العربية الدورية في آذار. وهكذا يتجه السباق العربي الحقيقي إلى إيجاد الظروف الملائمة لانعقاد القمة العربية المقبلة، أكثر منه إلى انتخاب رئيس جديد للبنان. بل تكمن المشكلة في القمة العربية نفسها، المقررة نهاية آذار، في دمشق، ومصيرها، وخصوصاً في حال طرأ تغيير على مكان انعقادها. وفي ظل تصاعد الخلاف السوري ـــــ السعودي وانقطاع الحوار بين البلدين وغياب الوساطة العربية بينهما، فإن مصير القمة سيكون مدعاة تساؤل وأكثر تعقيداً في حال نقلها إلى مقر الجامعة العربية في القاهرة أو إلى أي عاصمة أخرى. ويشير ذلك حكماً إلى أن دمشق ستقاطعها.
مغزى ذلك، أن انعقاد القمة في دمشق، يمثّل إشارة جدية لانفراج محتمل في العلاقات السورية ـــــ السعودية على نحو يحمل العاهل السعودي الملك عبد الله على زيارة دمشق للمشاركة فيها، مما سيحمل في طياته انفراجاً محتملاً أيضاً في الأزمة اللبنانية، فيسبق انتخاب رئيس جديد للجمهورية انعقاد القمة أو يليها. في المقابل، لا يعني إلغاء انعقاد القمة في دمشق إلا الانتقال بالصراع السوري ـــــ السعودي إلى لبنان من خلال اضطرابات وزعزعة استقرار أمني كان يمثل على مرّ السنوات الثلاث المنصرمة مظهراً واضحاً لتجاذب توازن القوى في الداخل اللبناني، سواء بالاغتيالات أو التفجيرات أو بالتشنّج السياسي الذي لم يكن يخفي بذور نزاعات مذهبية خطرة.
وخلافاً لآمال كانت قد علّقت على مشاركة الرئيس السوري بشار الأسد في قمة الرياض في آذار الفائت، واستقبال الملك عبدالله له، فإن المرحلة التالية لارفضاض تلك القمة أبرزت عمق الخلاف بين الدولتين الأكثر تأثيراً وتحريكاً في الوضع اللبناني، والأكثر قدرة على دفعه في اتجاه الاستقرار كما في وضعه على طريق الانفجار. وبطبيعة الأمر انتسب فريقا النزاع اللبناني، قوى 14 آذار والمعارضة، إلى كل من الرياض ودمشق.
2 ـــــ رغم أن الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أعلن الأحد الفائت قطع الحوار مع سوريا، وردّ هذه الأخيرة عليه التحية بمثلها البارحة، فإن كلاً منهما لم يوصد الأبواب تماماً في وجه الآخر، وإن تسلّحا ـــــ كل على طريقته ـــــ بحجته وذرائعه لتفسير البنود الثلاثة في الاتفاق الذي توصل إليه وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير في زيارته الأخيرة لبيروت في 5 كانون الأول المنصرم، قبل أن يُفاجأ بنقضه في اليوم التالي.
وسواء فهم السوريون من دور كوشنير أنه شريك فاعل في اتفاق البنود الثلاثة بعدما ناقش وزير الخارجية السوري وليد المعلم مضمون الاتفاق أكثر من مرة، في صيغته الأولى ومعدّلاً، مع الأمين العام للرئاسة الفرنسية كلود غيان، أم لم يفهموا ذلك، فإن مقاربة الفرنسيين الاتفاق كانت مختلفة تماماً، الأمر الذي حمل الدبلوماسية الفرنسية في بيروت على التأكيد لمراجعيها في هذا الإطار أن مشاركة كوشنير في اجتماعَي كانون الأول لم تتعدَّ كونه شاهداً على مناقشات الرئيس نبيه بري ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري، من غير أن يبلغ الأمر به حدّ التصرّف كضامن مباشر للاتفاق وشريك فيه. وبسبب ذلك، طلب المتحاوران بضع ساعات للاستمهال وإطلاع حلفائهما على البنود الثلاثة قبل العودة في اليوم التالي لتوقيع الاتفاق إذا حصل التفاهم عليه. ولم يدُر في خَلَد الوزير الفرنسي، في أي حال، أنه سيكون ثالث الموقّعين.
على أن انقطاع الحوار الفرنسي ـــــ السوري قد لا يبدو، في رأي مراقبين واسعي الإطلاع، أنه يحمل أكثر من تبادل ضجيج إعلامي، وأكثر من تبادل باريس ودمشق رسالة سياسية مشتركة، هي أن كلاً منهما فقد الثقة بالطريقة التي يدير بها الآخر حواره معه على افتراض أن هذه الثقة كانت موجودة في الأساس، أضف معرفتهما بأنهما أصبحا وجهاً لوجه في قلب المشكلة اللبنانية، وأن تخلّيهما معاً عن دور الوساطة يدفع بلبنان إلى الانهيار أكثر من أي وقت مضى، نظراً إلى تأثير كل منهما في الفريق المحلّي الذي يدعم.
وهكذا لا يبدو انقطاع الحوار الفرنسي ـــــ السوري منفصلاً عن انقطاع الحوار السعودي ـــــ السوري، ما داما يقودان في نهاية المطاف إلى أكثر من انتخابات الرئاسة اللبنانية، وإلى أكثر من توازن اللعبة السياسية الداخلية، بل إلى الطاحونة نفسها التي هي بالنسبة إلى دمشق المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
وإلى اللحظة، ترى سوريا في المحكمة التهديد الفعلي لنظامها واستقرارها.