سوزان هاشم

لا يزال الإهمال سيد الموقف في سجون الجنوب ونظاراته ومحاكمه. فالسجناء محرومون من حقهم بالحفاظ على صحتهم، من خلال تأمين مستلزمات التدفئة شتاءً، وكذلك موظفو قصور العدل والمحاكم، ناهيك عن القضاة

هي أنفاس النزلاء في كل من سجون: تبنين، النبطية، جزين وصور التي «تقيهم» من البرد القارس في الشتاء. فوسائل التدفئة لم تطأ أروقتها، والحصول على الملابس الشتوية رهن بتبرعات الجمعيات أو تقدمة الأهالي. أما الأغطية التي يحاولون قتل البرد بها، قتعبق بروائح الرطوبة المزمنة وعدم الغسل.
فالسجين محروم شتاءًَ من أبسط ما يقيه البرد القارس، ما يشكل عقوبة إضافية على العقوبة الأصلية للسجين، وانتهاكاً للمادة 82 من المرسوم رقم 14310 المتعلق بتنظيم السجون. وتنص المادة المذكورة على أن «ملابس المحكوم عليهم هي لباسان وقميصان وسروال وسترة وحذاء وقبعة، أما في فصل الشتاء فيضاف إليها جوربان صوفيان وعند الاقتضاء معطف. وتكون الملابس من الجوخ أو الكتان بحسب الفصل... تُجدَّد هذه الملابس كل سنة، ما عدا المعطف فيجدد كل ثلاث». أما لباس السجين الخاص، فيحفظ له لحين إخلاء سبيله. وبالنسبة للفراش، فتنص المادة 86 من المرسوم ذاته على أنه يحق لكل مسجون فرشة وشرشف وغطاء، تجدد حينما تصبح رثة.أين سجون الجنوب من كل ذلك؟ فالواقع يبدو بعيداً عن هذه النصوص. ففي سجن تبنين، يبدو أن ازدحامه بالسجناء هو الكفيل بتدفئتهم، في ظل غياب المدافئ على أنواعها والمكيفات. كما أن المياه الساخنة غير متوفرة لهم. وبالنسبة لملابسهم، فتقديمها مقتصر على أهاليهم، بعدما تراجع اهتمام الجمعيات الأهلية بأوضاع هذا السجن. وفي ما خصّ الفراش الذي ينام عليه السجين، فقلّما يتم تجديده وتغييره، وكذلك الأمر بالنسبة للبطانيات.
أما سجن صور الذي أعيد تأهيله أخيراً، فوضعه يشبه إلى حدّ كبير وضع سجن تبنين، مع فارق بسيط وهو توفر المياه الساخنة في «الباخورة» (مكان الاستحمام). ولا يختلف سجن النبطية عن غيره. ورغم اعتباره أفضل سجون الجنوب، فإن البطانيات والفراش قلّما يتم تغييرها أو غسلها، والثياب تقدمها الجمعيات الأهلية أو أهالي السجناء، وجلّ ما يتنعم به السجناء هو وجود المياه الساخنة فيه. ولم يدفع البرد القارس في جزين، التي تعلو نحو 800 م عن سطح البحر، القيّمين على سجنه من توفير أية وسيلة تدفئة فيه.
وما يقال عن السجون الجنوبية يقال عن المخافر، إذ إن غرف المشرفين عليها تنعم بوسائل التدفئة. وغياب وسائل التدفئة في السجون والمخافر يبرره أحد المشرفين على السجون بالقول: «إن وجودها ممكن أن يسبب خطراً على السجن، خوفاً لما قد يقدم عليه السجين من استغلالها لحرقه». بيد أنها حجة غير مقنعة، إذ يمكن تجهيز السجون بالمكيفات وهي لا تشكل خطراً عليه. ولماذا لا تقدم للمسجون الملابس والفراش والأغطية المنصوص عليها في المرسوم 14310؟ فهل تأمينها يشكل خطراً على السجن، أم أن ميزانية السجون ضئيلة جداً؟ وهكذا يحرم المسجون من أهم حقوقه الإنسانية. يعلق المحامي بلال رعد قائلاً: «إن لبنان بعيد جداً عن الحد الأدنى من المعايير التي وضعتها الأمم المتحدة لحقوق المسجون، الذي لا يعامل كالبشر في بلادنا. وكأن المقصود من ذلك إذلال المسجون بدلاً من إصلاحه». وأضاف: إن مسألة التدفئة بغاية الضرورة لما تشكله من حاجة أساسية لكل إنسان، وغيابها يعدّ عقوبة إضافية تنزل بحق المسجون».

قصرا عدل النبطية وصيدا

ترتجف يدا أحد الموظفين من البرد أثناء تدوينه المعاملات في قصر عدل النبطية، الذي تغيب عنه وسائل التدفئة والتكييف، والتي يستعاض عنها بمدافئ كهربائية قلّما تلبي الحاجة بسبب انقطاع الكهرباء شبه الدائم. كما أن طاقة المولّد الكهربائي الموجود فيه لا تغطي سوى المخفر الذي يشغل قسماً من المبنى ذاته. وهذا المبنى تجتاحه الرطوبة، بحيث يتحرش النش بجدران قاعة المحكمة فيه. أما الطلاء، فيزول تدريجاً عنه ليكشف عن الإهمال. فالقصر، منذ إنشائه في التسعينات، لم يخضع للتأهيل والترميم لجعله يليق بمكان تصدر فيه أحكام باسم الشعب. ويشار إلى أن موظفين نشروا في إحدى الغرف سموماً قاتلة للفئران، خوفاً من عبثها بالملفات القضائية، بعدما عُثِر على فضلاتها في أرجاء الغرفة.
العاملون في القصر المذكور، والمحامون الذين يترددون إليه، يشتكون من الإهمال المزمن: «وكأن المسؤولين ينتظرون حصول كارثة ليحسنوا قصر العدل في النبطية»، يقول المحامي حسين سنان، مشيراُ إلى ما حصل في قصر عدل صيدا، حيث كانت جريمة اغتيال القضاة الأربعة الحافز الرئيسي للإسراع بنقله إلى المبنى الجديد. هذا المبنى المصمم وفقاً للطراز المعماري الحديث والذي يعدّ من أفضل مباني قصور العدل في لبنان من حيث التجهيزات، تغطي وسائل التدفئة جميع غرفه، باستثناء النظارة، لكن من دون أن تعمل في كل الأوقات. وهكذا يمضي الموقوف والمسجون في الجنوب الشتاء، محروماً من طعم الدفء، في ظل حرمانه من أبسط حاجاته الإنسانية.