نقولا ناصيف
إعلان باريس ثم دمشق تبادلهما وقف الاتصال والتعاون بينهما في الملف اللبناني، وفي انتخابات الرئاسة، يعبّر عن نصف حقيقة موقفيهما. ذلك أن الحوار هو اليوم أقرب إلى التعليق منه إلى وقفه النهائي. تعكس هذا الموقف مصادر دبلوماسية غربية معنية ومتابعة للتحرّك الفرنسي، وتدرجه في سياق المعطيات الآتية:
1 ــــــ ما التقى عليه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ووزير الخارجية السوري وليد المعلم هو تعليق الاتصالات بين الجهات الفرنسية والسورية الرفيعة المستوى التي أدارته في الشهرين المنصرمين. والمقصود بذلك وقف المبادرات التي أقدم عليها ساركوزي حيال نظيره السوري بشار الأسد عبر الاتصال به خمس مرات، واجتماع وزيري خارجية البلدين برنار كوشنير والمعلم، وكذلك الاتصالات التي أجراها الأمين العام للرئاسة الفرنسية كلود غيان بالوزير السوري تكراراً (وكان قد زار دمشق مرتين الشهر الماضي).
إلا أن تعليق الاتصالات هذا لا يشمل، في رأي المصادر نفسها، الدور الذي يضطلع به السفير الفرنسي في دمشق ميشال دوكلو الذي لم يتلقَّ، بعد الموقف الأخير لساركوزي (30 كانون الأول)، تعليمات جديدة من الخارجية الفرنسية تتصل بمهمته ولقاءاته المسؤولين السوريين، أو تعكس نتائج تعليق الاتصال بين البلدين على المستوى الرفيع، علماً بأن مقدرته على التحرّك لدى هؤلاء تبقى محدودة التأثير خلافاً لنظيره في بيروت أندره باران الأوفر حظاً في الاجتماع بالمسؤولين اللبنانيين ساعة يطلب. تالياً تتركز معظم لقاءات دوكلو على شخصيات ومسؤولين قريبين من الرئاسة والخارجية في سوريا. وبحسب الدور المنوط به أساساً، فهو يشمل، عندما يتلقى تعليمات بذلك من الكي دورسيه، التشاور مع دمشق في الملف اللبناني، الأمر الذي يشير إلى استمرار وجود كوة مناسبة لاستمرار الحوار الفرنسي ـــــ السوري في الشأن اللبناني، من غير أن يتسم حتماً بالحرارة والفاعلية المطلوبتين، ومن غير أن يدفع بالبلدين خصوصاً إلى القطيعة على نحو ما أوحى موقفا ساركوزي والمعلّم.
2 ــــــــ تشعر باريس بأكثر من مرارة وخيبة أمل وامتعاض من الطريقة التي أدارت بها دمشق الساعات الطويلة من التفاوض معها على انتخابات الرئاسة اللبنانية، واستخلصت أن النظام السوري لم يصدق في التعهّدات التي قطعها لها في تقديم المساعدة لإجراء الاستحقاق الرئاسي في المهلة الدستورية ثم بعدها. وساءها يوماً بعد آخر تأجيل انتخاب الرئيس الجديد رغم ما بدا لها، ولكوشنير خصوصاً، أن دمشق قد تكون جازمة في تنفيذ تعهداتها. وبحسب المصادر الدبلوماسية الغربية ذاتها، استنتج الوزير الفرنسي من الاتصالات التي أجراها بالمعلم وتلك التي اطّلع على نتائجها بين الأخير وغيان، أن المسؤولين السوريين لم يمارسوا الضغوط الكافية على حلفائهم في المعارضة اللبنانية، وكانوا يطلبون باستمرار من قوى 14 آذار تقديم التنازل تلو الآخر. كذلك ساء كوشنير المبالغة التي لمسها في المطالب التي كان قد سمعها من المعارضة ولقيت تأييداً غير مشروط من العاصمة السورية. وفي كل مرة كان المسؤولون السوريون يبلغون إليه أن الاتفاق شبه جاهز، كانوا يرفقون هذه العبارة بالقول إن ذلك يتطلب مزيداً من ممارسة الضغط على قوى 14 آذار. كذلك لاحظ الوزير الفرنسي أن سبع زيارات قام بها إلى بيروت لإطلاق آلية انتخاب رئيس جديد، دونما الرغبة في الخوض في الخلافات الموازية الناشبة بين طرفي النزاع، لم تفضِ إلا إلى إخفاق مهمته في لبنان، وإلى استنزاف رصيد فرنسا التي بذلت الكثير ـــــ وسلفاً ـــــ بغية الوصول إلى هذا الهدف، إلى حدّ مسارعة ساركوزي إلى مكالمة الأسد هاتفياً قبل أن يمتلك أدلة حسية على جدية دمشق في المساعدة.
3 ــــ مذ بدأ الحوار الفرنسي ـــــ السوري في انتخابات الرئاسة اللبنانية طُرحت تساؤلات وأسئلة عدة في الكي دورسيه تتعلق بصحة هذا الخيار وصوابه. ولم تجمع الآراء المتداولة في أوساط الخارجية الفرنسية على مواقف موحدة حيال ذلك، بل اتسم بعضها حينما بدأ هذا الحوار ثم في محطاته الأخيرة المخيبة باهتمام واسع وبالحدة كذلك بين قائل باستمراره وآخر بقطعه فوراً. وتركز معظم التساؤلات على:
ـــــ سبل التعامل مع نظام الأسد والتحقق من جديته وصدقيته وإمكان الاعتماد عليه. ويتسلح القائلون بهذا الرأي بأن تعاوناً أمنياً ناجحاً حصل بين البلدين، وخصوصاً من خلال غيان الذي كان قد شغل منصب مدير مكتب ساركوزي عندما كان الأخير وزيراً للداخلية في عهد سلفه الرئيس جاك شيراك. وقد تعاون مع الاستخبارات السورية لجمع معلومات عن مجاهدين مسلمين فرنسيين دخلوا العراق بعد الاحتلال الأميركي له عام 2003، إلى معلومات أخرى تتصل بالإرهاب.
ـــــ رغــــــــم رغبـــــة باريس في الحوار مع سوريا وطلب مساعدتها، إلا أن ذلك يقتضي ألا يعيد النفوذ السوري في لبنان إلى ما كان عليه قبل ربيع 2005، لأن الهدف الحقيقي لباريس هو استقلال لبنان وسيادته. ويقع في هذا النطاق الدور، البعيد عن الأضواء، الذي يضطلع به جان دافيد ليفيت المستشار الدبلوماسي للرئيس الفرنسي، صاحب الباع الطويل والمهم في المشاورات الفرنسية ـــــ الأميركية الممهّدة لوضع القرار 1559، وفي وضع القرار نفسه، الأمر الذي يطرح مفارقة ذات دلالة بدورها هي تحوّل ليفيت إلى أقرب المستشارين من ساركوزي وأولهم بعدما كان أقرب المستشارين إلى شيراك. وهي ظاهرة نادرة في انتقال موظف يتجاوز دوره وظيفته من عهد إلى آخر لا يمثل امتداداً له.
ـــــ لا تنفي باريس وجود دور حيوي لسوريا في لبنان، إلا أن المطلوب معرفة المدى الذي يجعلها تسهم في إيجاد حل للمشكلات الناشبة في هذا البلد، وليس فقط التسبب بها. وينادي أصحاب هذا الرأي باستمرار الحوار.
ـــــ تريد باريس التعامل بواقعية تجعلها مدركة تماماً أن سوريا قادرة على تخريب أية تسوية في لبنان لا تشعرها بالرضى ومراعاة مصالحها، ولا تكون شريكاً أساسياً فيها. وثمة يقين بأنها متمكنة من قدرتها على التخريب نظراً إلى أن نظامها قاس ولا يتورع عن القيام بأي شرّ يرمي إلى تحقيق أهدافه.
ـــــ تعرف كذلك أنها لا تستطيع التوصل إلى حل لانتخابات الرئاسة اللبنانية من دون سوريا، لكن المطلوب حمل هذه على المساعدة بممارسة مزيد من الضغوط عليها.