الصرفند ـ آمال خليل
البحر «يضحك» من آل سليم الذين يتوارثونه واحداً تلو الآخر، حتى فاق عددهم عدد السمك الذي يصطادونه يومياً. لكن ما باليد سوى البحر ومستلزماته لتحيا العائلة التي تغرق تغرق تغرق


لا يشعر علي سليم بالفخر لأنّه عندما يغمض جفنيه للمرة الأخيرة سيكتب أملاكه، الشباك والسنانير والإبر والرصاص والفلّين والشيمة، لورثته وورثة البحر، لأولاده التسعة الذين ولدوا في البيت المتواضع إلى جانب البحر الذي ناداهم إليه باكراً ولم يميّز بين البنات الخمس والصبيان الأربعة الذين يُطلبون واحداً تلو الآخر بحسب أعمارهم، إلى الخدمة الإجبارية في الصيد وصنع الشباك في بلدة الصرفند (قضاء الزهراني). جميعهم يتقبّلون القدر البحري منذ صغرهم، كما انساق والدهم من قبل إلى المصير ذاته، لأن والده هو الآخر كان بحرياً. يتقبّلون إلى حد أنهم يضحّون بدراستهم وأحلامهم وطموحهم قرباناً لبعضهم.
في عام 1981، دفع الوالد علي كفّه وأصابعه وعينه ثمن محاولته الأخذ من البحر بالصيد بالديناميت. أكثر ما يريد أن يعطيه هو كي يصنع لطفليه عبير وحسين والآتين لاحقاً، حياة آمنة لا تشبه البحر. سنوات سبع عجاف مرّت على الأسرة التي ازداد أفرادها كل عام أو عامين، قبل أن يترك حسين (22 عاماً) المدرسة ليتفرّغ لمساعدة والده في الصيد. ولمّا هال عبير (26 عاماً) أن ترى أباها وأخاها «يسرحان طوال الليل في نصب الشباك وجمعها، ولدى عودتهما صباحاً يمضيان ساعات في تصليحها فلا يرتاحان»، قررت أن تتعلّم تصليح الشباك لتخفف عبئاً عنهما، وتعلّمت أيضاً تصنيع شباك الصيد من أحد العمال المصريين، كان يتولى صناعتها لصيادي المنطقة، لتوفّر على الأسرة «تكاليف زائدة إخوتها أولى بها». تركت عبير المدرسة في المرحلة الابتدائية وتفرّغت لمهنة صنع الشباك لمصلحة دراسة ومستقبل إخوتها الذين هالهم أيضاً أن تتحمّل عبير وحدها العبء، فأخذت كل من زينب (25 عاماً) وهاجر (23 عاماً) وفاطمة (19 عاماً) ومريم (16 عاماً) دورهن، الواحدة تلو الأخرى، في مساعدتها بعد عودتهن من المدرسة، حتى وقعن جميعاً في شرك البحر؛ إلى أن ذاع صيت الإناث اللواتي لا يقعن في شباك الصيد بل يصنعنها، بين صيادي المنطقة الذين توافدوا على الأنامل الطرية لصنع شباك رزقهم، إلى أن أصبحن تدريجاً مقصداً لهم من الجوار والناقورة وصور وبيروت وبعلبك.
يقول الوالد إن الصانعات الخمس هن «صمام الأمان للعائلة الكبيرة، لأن زمن الصيادين ولّى بعدما ضاق البحر وكثر البحّارون وقلّ الرزق الذي لا يسدّ رمق الأفواه الكثيرة».
تفرح البنات لدى رؤية تقدير والدهن تجاه ما بذلنه من صحة وصبا ولهو وأحلام، قبلن بالاستعاضة عنها بين الشباك التي تخيط معظم أوقاتهن، فلم يعد هناك من مكان للنزهات والدلال والتسلية، لدرجة أن عبير، مؤسسة الصنعة، التي تزوجت قبل ثلاث سنوات، لم تتخلف عن ركب العائلة، فلم يحل زواجها بينها وبين «التضحية المقدسة ليقف إخوتها على أقدامهم».
مريم أصغرهن، تركت دراستها أخيراً لتتفرّغ للمهنة. ورغم أن أحلامها أوسع من البحر وأبعد منه، إلا أنها لا تجد نفسها وأخواتها «مستغلات، بل سيئات حظ رماهن في البحر. وما دام الواقع على قد الحال وما باليد الحيلة، فقد كتب علينا كما كتب على سوانا حتى يفرجها الله».
وأخيراً، بدأ الفتيان الصغار الثلاثة محمد (15 عاماً) ووسام (13 عاماً) وحسن (11 عاماً) بمؤازرة الصناعة الأنثوية في صناعة الشباك في البيت، إضافة إلى معاونة الوالد والأخ الأكبر في الصيد. بديهي هو شكل الغد بالنسبة إليهم كما صار لدى أخواتهم. بحر وسمك قليل وكدح ورؤوس تنحني ليالي طويلة على ضرب الشباك التي حلّت مكان إسفلت البيت. رؤوس طأطأتها الظروف المعيشية فسرقت منها اللعب والصبا، وحوّلت اهتمامها بسعر المواد الأولية التي يصنعون منها الشباك وارتفاع سعر النايلون عالمياً ثلاثة أضعاف منذ سنة واحدة، وتراكم ديون التجار عليهم وسرعة تسليم «طلبيات» الصيادين. مخاوف لا تجعل غد هؤلاء الصغار أجمل، أقلّه لأن زبائنهم والبحر على السواء، يزدادون فقراً.
رغم كل ذلك، فالبحر ـــــ بحسب حسين ـــــ «يهدر في عروقهم منذ كانوا أجنّة في بطن أمهم»، وهم متمسكون به لأنهم «رؤساء في البحر. ومن يتزعم البحر لا يملك شيئاً على البر». ولأنهم يتامى بلا أبيهم البحر، يضرب حسين منذ الآن لطفلته الصغيرة «بالإبرة والسنانير شبكة حياتها كما فعلت عمّاتها الخمس، ملكات البحر وغريبات البر».