زينة خليل
تحوّل معبد الإله مرقوروس في أعالي قرية حردين، الواقعة في جرود البترون، إلى مركز إرسال، بعد أن بنت محطات التلفزة أعمدتها داخل حرمه وشوّهته

بعد ما يقارب ساعة من السير المتعرج في مسالك وعرة، ومحاذرة السقوط في أكثر من هاوية سحيقة، يصل زوّار معبد حردين إليه. هناك، يطالعهم رجلٌ ملتح منتصب القامة، إلى جانب أعمدة لم يبق منها سوى القليل، وتمثّل أطلالاً لما كان في غابر الزمان معبداً رومانياً يُعدّ من الأجمل في لبنان.
للوهلة الأولى، يظن الزائر أن هذا الرجل هو حارس المكان، لكنه سرعان ما يفاجأ به حارساً لهوائيات إحدى المؤسسات الإعلامية المرئية والمسموعة، المنتصبة أعمدتها في هذا المكان المرتفع الذي يمثّل نقطة مهمة للبث التلفزيوني والإذاعي. وترتفع أعمدة الإرسال الضخمة تلك داخل حرم المعبد الروماني، مدمرة قسماً من الآثار الدفينة في أرضه، ومشوّهة الموقع الأثري بشكل فادح.
وهذا ليس الاعتداء الأوّل الذي يتعرض له الموقع. فأحجار المعبد مبعثرة، والحفر التي خلّفها سارقو الآثار أزالت تقريباً شكله الهندسي، ذلك أن هذا المعبد، الذي بُني على علو 1300 متر عن سطح البحر وبقي معزولاً عن السكان، كان خلال سني الحرب الأهلية هدفاً للباحثين عن «الثروات الدفينة». فبدأوا هم بتدميره وإزالة معالمه، ثم أتت المحطات التلفزيونية لتكمل ما بدأوه.
تقع حردين في جرود بلاد البترون في محافظة لبنان الشمالي، وتطلّ على الساحل اللبناني ـ السوري، ما جعل منها مكاناً مهماً للتحصن والصلاة أثناء سيادة الفترة الرومانية على «بلاد الشام». وقد شيّد الإمبراطور الروماني أدريانوس أوغوسطوس (117ـــــ 138م) على قمـة الجـبل معبداً رومانياً ضخماً لإله التجارة مرقوريوس (Mercury)، وزخرفه بثلاثين عموداً من الطـراز الأيوني. والطراز الأيوني هو نمط من البناء ظهر في الفترة اليونانية ـــــ الرومانية، يتميز بأعمدته المتناسقة وبتيجان أعمدتها حلزونية. وتندر في لبنان المعابد المبنية على هذا الطراز الهندسي، ولكن لم يبقَ اليوم من أعمدة معبد مرقوروس الغارق في التاريخ، سوى قواعدها وبعض من تيجانها المتناثرة وحجارة مصقولة. حتى أن بناء المعبد قد تهدم بفعل الزمن والعوامل الطبيعية والنهب، فتحول أطلالاً مؤلفة من قواعد حجرية ومجموعة كبيرة من حجارة مصقولة كانت تؤلّف جدرانه.
تجدر الإشارة إلى أن وضع المعبد لم يكن دوماً مزرياً إلى هذه الدرجة. ففي سنة 1964، استملكت المديرية العامة للآثار الموقع الأثري، وبدأت عملية ترميمه وتأهيله ليصبح موقعاً سياحياً. وقال عنه المهندس المسؤول عن المشروع هاروتين كلايان: «المعبد في حردين مثال فريد في طريقة بنائه على النمط الأيوني، إذ إنه من المعابد النادرة في لبنان التي بنيت بحسب هذا الفن المعماري... إنه واحد من أعظم معابد لبنان وأهمها، إنه معبد رائع حقاً».
وبعدما بدأت «ورشة» الترميم، التي جرى خلالها إعادة بناء أعمدة مدخل المعبد، عثر المنقّبون داخل حرمه على تمثال صخري لرجل منتصب القامة يمسك بعصا طويلة، وعلى لوحة حفرت عليها الأحرف الثلاثة الأولى لاسم الإله مرقوروس، فتقرر حينها أن التمثال يرمز لهذا الإله الذي شُيّد المعبد على اسمه. وفي الجهة الشرقية من المعبد، ينتصب المذبح الذي يتوسط الصحن، وهو مُشيّد ببلاط رخامي يقوم على أربع قواعد حجرية مصقولة. أما المذبح، فهو ذو شكل هندسي مربع، لم يبق منه سوى بعض المداميك السفلية ذات الحجارة الضخمة المبعثرة في أرجائه، بعد أن جرف باطن أرضه السارقون. والموقع مدمر إلى درجة يصعب معها معرفة شكله الهندسي، هذا بالإضافة إلى أن للزيارة متطلبات أمنية خاصة بها. فحراس أعمدة الإرسال «يشرفون» على الزيارة، ويمنعون التقاط الصور خوفاً على أنفسهم من الأعمال «الإرهابية»... ويبقى السؤال: من يحمي ما «بقي» من الآثار في حردين؟ ولماذا تبقى المواقع الأثرية في المناطق مهملة ومنسية إلى هذه الدرجة؟



حردين في التاريخ

ورد اسم حردين أو مشتقات منها منذ القرن الثالث عشر قبل الميلاد. فعلى لوحات الحثّيين ذكرت «حردونا». أما في اللغة العربية، فقد ذكرت كلمة «حردو» على هامش أحد الكتب المقدسة التي يعود تاريخها إلى عام 1245 ميلادي، وهي تعني «الخائفون على الإيمان». والجدير بالذكر أن قرية حردين مزنّرة بقوس من التلال منتصب كالجدار، تغطيه غابة من الأشجار تبدو معها هذه البلدة الوادعة كأنها روضة غنّاء تنبعث من أنسامها نسيمات تشفي العليل.