نقولا ناصيف
لأنها تعرف أن من المتعذّر عليها، كما على أي جهد آخر، التوصل إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية دون مساعدة جدية وصادقة من دمشق، تحبّذ باريس، وفق مصادر دبلوماسية غربية واسعة الاطلاع، إعطاء دور أكبر للجامعة العربية في الجهود الدولية لحل الأزمة اللبنانية، وتبدو مهتمة بإبراز الحاجة إلى أن يضطلع العرب، فرادى أو من خلال الجامعة، بوساطة موازية لمساعيها. وإذ تتحفظ المصادر الدبلوماسية عن تأكيد وجود تنسيق مباشر بين العاصمة الفرنسية والجامعة العربية سبق الدعوة إلى اجتماع وزراء الخارجية العرب غداً الأحد في القاهرة، تشير إلى المعطيات الآتية:
1 ــــــ أن اجتماع وزراء الخارجية هو المبادرة الأولى حيال لبنان في إطار الجامعة العربية منذ أشهر، بعدما تفرّد بعض العواصم كالقاهرة والرياض وعمان بجهود مستقلة في ملفات تتصل بالخلافات العربية، وكان من بينها الملف اللبناني، ولا سيما ما يتعلق بانتخابات رئاسة الجمهورية. ورغم أن باريس حاولت في الشهرين المنصرمين ملء الفراغ العربي في التحرك الدبلوماسي وبذل الوساطة، وتحمّلت تحديداً مغامرة الفشل، إلا أنها لا تخفي حماستها لحصول تحرّك عربي نشط ومباشر حيال هذا البلد. إذ لم تكن مرة غائبة عن الجهود التي كان بذلها الأمين العام للجامعة عمرو موسى في زياراته الثلاث إلى بيروت في تشرين الثاني وكانون الأول 2005، وأطلع بانتظام الدبلوماسية الفرنسية على تحرّكه هذا، والتقى والفرنسيين على القول في أكثر من مناسبة إن الجهدين العربي والدولي، والعربي والفرنسي، يتوخيان هدفاً واحداً هو إعادة الاستقرار إلى لبنان.
2 ــــــ يواجه الوزراء العرب غداً مشكلة لبنانية معقدة وسهلة في آن واحد. وتتلخص بتعايش نقيضين حادين مثيرين للاستغراب: فراغ في الرئاسة اللبنانية، وفي الوقت نفسه توافق على ملء هذا الفراغ بإجماع لبناني على مرشح توافقي هو قائد الجيش العماد ميشال سليمان. وكما يبدو الحل سهلاً حيال الفراغ وهو انتخاب المرشح التوافقي، فهو مشوب بالصعوبة لأن ثمة شرخاً كبيراً بين الأفرقاء اللبنانيين على ما يتعدى انتخاب سليمان بحيث يتعذّر انتخابه قبل تذليل مبررات هذا الشرخ. وهكذا سيجد الوزراء العرب أنفسهم أمام مشكلة حلّها موجود، ونادوا به وهو استعجال انتخاب الرئيس الجديد، لكن ذلك يحتاج إلى الاتفاق عليه قبلاً من خلال إعادة بناء الثقة بين قوى 14 آذار والمعارضة. وتبعاً للمصادر الدبلوماسية الغربية، فإن ما ينتظر اجتماع الوزراء العرب أيضاً ليس مناقشة مبادرة جديدة حيال الأزمة اللبنانية، ولا استطلاع واقع يكاد يقترب من حافة الانهيار والانفجار، بل وضع حل يمكن فرضه على طرفي النزاع المحليين، ويحظى في الوقت نفسه بموافقة طرفي النزاع الإقليميين اللذين تتلطى بهما الموالاة والمعارضة على السواء.
3 ـــــ تتجاذب الوزراء العرب أيضاً وجهتا نظر متعارضتان إلى حدّ التناقض، وتتصلان بتدهور العلاقات الثنائية بين السعودية وسوريا، بل تبرّران أسباب استمرار الخلاف بين الدولتين. إذ تجتمع الرياض ودمشق على ربط تطبيع علاقاتهما بإيجاد حلول جدية للأزمة ووضع حدّ للانقسامات الداخلية، وتختلفان على أولوية مقاربة هذا التطبيع. وفيما تقول المملكة إن حل المشكلة اللبنانية يمهّد لإعادة العلاقات الثنائية بين البلدين إلى طبيعتها، تقول دمشق بمنطق معاكس هو ضرورة إرساء العلاقات الثنائية قبلاً وتحديد أطرها الجديدة، على أن يأتي حل الأزمة اللبنانية نتيجة حتمية لهذا التطبيع. ويطرح هذا التجاذب واقع أن كلاً من البلدين يقارب خلافه مع ندّه على طريقة: أيهما يسبق الآخر البيضة أم الدجاجة؟
إلا أن ذلك يشير أيضاً إلى أن النفوذ الذي تمارسه كل من الدولتين على الفريق السياسي اللبناني الذي يواليها يضاعف من التصلب، ويدفع بهما إلى المواجهة كلما تفاقم خلاف الدولتين. وهكذا تعكس قوى 14 آذار والمعارضة حجم التوتر ونبرته لدى هذه الدولة أو تلك من خلال مواقفهما الداخلية التي قادت إلى مأزق مفتوح. وكما وضع خلاف الرياض ودمشق الجامعة العربية في دائرة مقفلة، كذلك حال المأزق اللبناني المفتوح أسير الشروط المتبادلة بين طرفي النزاع.
يدفع ذلك المصادر الدبلوماسية الغربية إلى القول إن الجامعة العربية لم تكن مرة ساحة حلول بمقدار ما كانت دائماً ساحة الخلافات العربية.
ومع أنه لا مؤشرات واضحة حتى الآن إلى المسار الذي سينتهجه اجتماع الوزراء العرب في العاصمة المصرية، ولا ملامح الاتصالات البعيدة عن الأضواء الجارية بغية إنجاحه تفادياً للذهاب بلبنان إلى السيناريو الأسود، تتشبّث المملكة بوجهة نظرها في ضوء النتائج التي كانت قد خبرتها في القمة العربية التي انعقدت على أراضيها في آذار 2007، عندما جارى عاهلها الملك عبد الله وجهة النظر السورية بأن أعطى الأولوية للتطبيع الشخصي، فالتطبيع الرسمي، في علاقات البلدين آملاً أن ينعكس ذلك في مرحلة لاحقة على وقف تدهور الأزمة واستعجال حلولها. وكانت المشكلات الناشبة حينذاك تقتصر أساساً على البندين الأكثر إثارة للاضطراب والانقسام، وهما: إقرار المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس رفيق الحريري والتفاهم على تأليف حكومة وحدة وطنية لا غلبة فيها لفريق على آخر. لذلك حرص الملك على إرسال موفد رفيع المستوى إلى دمشق، هو وزير الدولة للشؤون الخارجية، لتوجيه الدعوة إلى الرئيس بشار الأسد لحضور القمة، واستقبل الأخير في المطار والتقيا على هامش قمة الرياض، إلا أن تطوراً إيجابياً لم يطرأ على الوضع اللبناني الآخذ بالتردّي مذّاك، بالتزامن مع تراجع كل المناخات الإيجابية التي رافقت تلك القمة. وعوض أن تُحَلّ هاتان المشكلتان أضافت سوريا إلى الانقسام اللبناني فراغاً دستورياً في كرسي الرئاسة.
وسواء نجحت الجامعة في إحراز تقدّم على صعيد الخلاف السعودي ــــ السوري، كأحد المظاهر الممهّدة والضرورية لإنجاح انتخابات الرئاسة اللبنانية، والتي يُدرج رئيس المجلس مصيرها في معادلة «س. س» أم لا، فإن اجتماع القاهرة سيمثل أحد المؤشرات، سواء السلبية أو الإيجابية، لما ينتظر القمة العربية المقبلة، المقررة في نهاية آذار، في دمشق. وتبعاً لتقويم المصادر الدبلوماسية الغربية، لا قمة عربية في دمشق قبل خطوة غير متوقعة يقدم عليها الرئيس السوري بزيارة المملكة في محاولة تطبيع جديدة لعلاقات البلدين، ما دام يتعيّن عليه الإعداد بعناية لانعقاد قمة ناجحة على أراضيه.